top of page

"نهوة" و"فصلية" و"غسل العار"… عادات بالية مازالت تُكبّلُ أيدي النساء في العراق


قبل فترة قصيرة من كتابة هذا التقرير، خسر شابٌ حياته في كربلاء برصاصة من أبناء عمّه، أنهت فصلاً من نزاع عشائري على امرأة.قيل : "نهوة". و"النهوة" في بعض مناطق العراق لا تُناقش. هي أمر. مجرد التفكير في كسره قد يعني الموت.

ليست النهوة وحدها من تحاصر النساء وتحدد ملامح حياتهن.هناك أيضا الفصلية، أو زواج الدية، قوانين الشرف، وأعراف أخرى، بعضها وُلد في ظلال العشيرة، ثم تمدد حتى دخل نصوص الدولة، عبر التغاضي أو الصمت أو التبرير.

تقول "سجى" (اسم مستعار): "أحببتُ زميلي في الجامعة. لكنني أعرف أنني محجوزة لابن عمي منذ صغري. لا أحبه. وهو لا يفكر بي. لكن والدتي تقول لي: اسكتي، لا تفضحينا أمام عمّك. وإن قررتُ الزواج من شخصٍ غريب، سيحترق البيت فوق رأسي". هذا النوع من الحكايات لا يُروى في العلن كثيرًا، لكنه حاضر في واقع كثير من الفتيات، خاصة في المحافظات الجنوبية والغربية والمناطق النائية، حيث لا تزال العشيرة تُمسك بزمام القرار، وتُحدد من تتزوج الفتاة، ومتى، ولماذا.


زواج "الفصلية" لا يقل قسوة. يُقدَّم فيه جسد الفتاة كوسيلة لحل نزاع دموي، حيث تُسلَّم لعائلة غريمة كجزء من اتفاق، دون رأي أو رغبة أو حق بالرفض.


أما "قانون غسل العار"، فما زال يشكّل غطاءً قانونيًا لجرائم قتل تُرتكب باسم "الشرف". وفي بعض الحالات، يُخفّف الحكم على الجاني إذا أقنع المحكمة أن الدافع "شريف"، وأن القتل كان لتطهير سمعة العائلة.

تقول الناشطة زينب البياتي: في العراق، تُربط مفاهيم "الكرامة" و"الشرف" غالبًا بجسد المرأة، وكأنها تمثل هوية الجماعة، ومصدر الاعتبار أو العار. وكلما اشتد ضغط العادات، تراجعت فرص الفتاة في الاختيار"، مضيفة " هذه التقاليد ليست مجرد رواسب من الماضي، بل هي أنظمة اجتماعية فاعلة، تُعيد إنتاج نفسها يوميًا، وتُشرعن أدوارًا غير متكافئة بين الرجل والمرأة. ورغم تغير الأنظمة الحكومية والسلطات، فإن القواعد القديمة تستمرّ… تُمارس، وتُبرَّر، وتُورَّث".


النهوة  و"الوعد الذي لا يُكسر"


"النهوة" عُرف عشائري عراقي قديم، يُجبر الفتاة على البقاء دون زواج إذا قررت الارتباط برجل من خارج العشيرة. بموجب هذا العُرف، يملك عمّها أو ابن عمّها الحق في منعها من الزواج، حتى وإن لم يكن يرغب بها، وحتى إن أمضت حياتها كلها وهي تنتظر.

تُبيّن البياتي أن النهوة من الأعراف المتجذرة في المجتمع منذ عقود، ورغم أنها بدأت تتراجع في بعض المناطق، إلا أن تمسُّك البعض بها يُبقيها حيّة."أحيانًا، لا يريد ابن العم أن تتزوج ابنة عمّه من غريب. حتى إن لم يحبها. وحتى إن تزوّج غيرها، فهو يُصرّ على أن لا تكون لغيره"، توضح زينب.


أما المحامية نور العاني، فترى أن هذا النوع من الزواج القسري "جريمة يُعاقب عليها القانون"، لأن ركن الرضا في عقد الزواج يُعدّ أساسياً. وإذا غاب الإيجاب والقبول من الطرفين، يصبح العقد باطلاً".

قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959، وتحديدًا في مادته التاسعة،

" يُعاقب بالحبس أو الغرامة كل من يُجبر شخصًا على الزواج أو يمنعه منه، إذا كان من أقاربه من الدرجة الأولى".

لكن المشكلة تكمن في التفاصيل، فالقانون لم يذكر "النهوة" صراحة، ما يجعل تطبيقه في هذه الحالات صعبًا. وهذه الثغرة، بحسب مختصين، تمنح العشيرة فرصة للاستمرار في فرض هذا العرف، دون خوف من المحاسبة.

في رسالة تلقتها كاتبة المقال من إحدى النساء ضحايا "النهوة"ـ جاء فيهـا أن ابن عمها نهاها عن الزواج قبل أن يغادر إلى الحرب عام 2014. ثم لم يعد. مرت أكثر من 11 سنة، وهي ما تزال تنتظر، محاصرة بقرار لا يد لها فيه. حاولت إقناع عمّها أن "الزمن تغيّر"، لكنه قال لها أن "الوعد لا يُكسر". 

وفي آخر مكالمة بينهما قالت: "العمر راح… ولم يتبق لي طاقة لا للانتظار ولا للحياة."


الفصلية أو النساء كوسيلة للترضية

 

الزواج بالفصلية، أو زواج الديّة، عُرف عشائري قديم يُستخدم لحل النزاعات بين القبائل، وغالبًا ما تُدفع فيه النساء كوسيلة للترضية، كأنهن ملك من أملاك العائلة.

هذا العرف لم يولد فجأة. في عام 1918، وخلال فترة الاحتلال البريطاني للعراق، أصدر القائد البريطاني ما عُرف بـ"نظام دعاوى العشائر"، والذي حوّل الأعراف القبلية إلى قواعد قانونية.صار شيخ العشيرة قاضيًا، وتحوّلت المجالس العشائرية إلى محاكم.

واستمرت هذه الصلاحيات حتى نصّت المادة 114 من القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 على أن جميع القوانين والأنظمة التي أُقرت منذ عام 1914 تُعتبر نافذة، بما فيها تلك التي كرّست سلطات العشيرة.

ومع تفاقم استخدام النساء كـ"فصل" لحل النزاعات، أصدرت وزارة الداخلية عام 1929 منشورًا رسميًا يقضي بإلغاء تسليم النساء كتعويض، واقتصار الفصل على دفع المال فقط. لكن الواقع ظلّ مختلفًا. في بعض المناطق، لم يصل المنشور. وفي أخرى، وصل وتُرك على الرفوف.

أما قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، فكان أوضح من كل ما سبق، حيث جاء فيه: "الإكراه في الزواج جريمة، والزواج تحت الضغط يُعد باطلًا".

 لكن الواقع، مختلف عما ينص عليه القانون، حيث تتواصل ممارسات "النهوة" و"الفصلية" وتتزايد حالات "غسل العار".

بفضل المحامية نور العاني، استطعنا الوصول إلى سيدة عراقية كانت "فصلية"، لكنها استطاعت أن تُطلق قيدها بعد ثلاثة عشر عامًا من الزواج بالإكراه.تقول الضحية: "عائلتي باعتني". ظنّت أن شقيقها قتل رجلاً في نزاع عشائري، وكانت هي ثمنًا لحقن الدماء.لكن الحقيقة كانت أشد مرارة، فالرجل لم يمت، بل أُصيب بشلل نصفي، وأصبحت هي الزوجة التي تُقدم كـ"دية" أو "فصل"، تعويضًا عن الجريمة.


"كان يراني امتدادًا لكرهه لأخي، وفي كل مرة يشعر بالعجز، يُفرغ فيّا جام غضبه"، مضيفة، " ذات يوم، تعثّرت بالكرسي وأنا أُمسكه، فصرخ بي: "اجلبي العصا" وضربني، ثم لحقت به أمه، وضربتني أكثر. لم يحبّني أحد، وكنت كلما توسلت لوالدي أن يُعيدني للبيت، كان يرفض. في الأثناء، أخي تزوج كما أحب، وعاش كما يشاء، أما أنا، فكنتُ العقاب. وكان لزاما عليّ أن أنتظر موت والدي حتى أنال حريتي." تقول المتحدثة. 


غسل العار أو حينما يتحوّل الجاني إلى "مجرم بدعم الدولة"


تتحدث المحامية نور العاني بمرارة عن المادة 409 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، والتي تفتح الباب واسعًا لما يُعرف بـ"جرائم الشرف"، حيث تقول: " لا يمكن أن تُبرّر أية خلفية قانونية أو أخلاقية وجود هذا النص في قانون دولة، فالمادة 409 لا تكتفي بتبرير الجريمة، بل تُنقذ القاتل من تلقي العقاب المناسب لجريمته".

ترى العاني أن القانون لا يحمي النساء، بل يُعطي الغطاء الكامل للرجل ليتحوّل إلى مجرم "بدعم الدولة"، مضيفة "في لحظة غضب، أو شجار تافه، أو بسبب كذبة مختلقة، قد تُقتل فتاة، وتموت مرة أخرى حين تُتّهم في شرفها أمام المحكمة."

تقول الناشطة زينب البياتي أنها حاولت مساعدة إحدى الفتيات التي تعرضت للتهديد بالقتل من قبل عائلتهاـ  "عندما توجهت الى جامعتها لأستفسر عن أخبارها، لم أحصل على أية معلومات. وحينما أردت إخبار عمادة الجامعة، تنصلت من المسؤولية ورفضت الحديث بالأمر". وتُعلّق بحسرة "من المرجح أنها قُتلت".

تستذكر البياتي أيضا قصة "طيبة العلي"، المدونة العراقية التي هزّت مأساتها الرأي العام، حيث هربت من منزلها بعد أن تعرّضت للتحرش من قبل شقيقها، فلاحقها والدها… وقتلها.

"في النهاية، القانون لم يُحاسب الجاني. ولم ينتصر لكرامة طيبة، بل انتصر لقاتلها". تختم قولها بأسف.


لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)



コメント


Follow Us !

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter

Thanks for submitting!

فتيات ضحايا لهيمنة العادات بمستقبل مجهول.png
bottom of page