الريح تأكل الزرع... وتأكلنا: قصة الزحف الرملي الذي يبتلع مأرب ويهدد النساء ومزارعهن
- أمل خالد و مروى جمال
- قبل يومين
- 6 دقيقة قراءة

أمل خالد و مروى جمال
على أطراف مدينة مأرب في قطعة أرض لا تكاد تظهر ملامحها تحت أكوام الرمل المتحركة، تقف أم ناصر ويدها على قلبها تتأمل بقايا مزرعتها وقد غطّتها الرمال حتى اختنق العشب وغارت الجذور وغاب اللون الأخضر. كانت تلك المزرعة كل ما تملك من إرث زوجها الراحل، وملاذها الآمن وسط حرب أنهكت البلاد، لكن الزحف الرملي لا يعترف بالماضي ولا يرحم الفقراء.
"الريح تأكل الزرع... وتأكلنا"، قالتها أم ناصر وهي ترفع رأسها وتزيل الرمال عن عينيها. وتابعت بنبرة يملؤها الحزن "أشتي أزرع، بس الرمل أسرع".
أم ناصر نموذج لمئات النساء اللاتي وجدن أنفسهن وجهاً لوجه أمام كارثة بيئية غير مرئية، تُعرف بـالزحف الرملي .. الكارثة التي لا تُدوّي كالقنابل، لكنها أكثر فتكًا.
حين تبتلع الرمال الأرض
تُعدّ ظاهرة الزحف الرملي من أكبر التحديات البيئية في اليمن حيث تُصنّف نحو 90% من أراضي البلاد ضمن مناطق متصحّرة أو معرضة بشدة للتصحر والزحف الرملي. وينتشر الزحف في المحاور الصحراوية والساحلية ويتركز بصورة كبيرة في محافظات مثل مأرب، الجوف، أبين، وحضرموت.
في مأرب، تعرضت الأراضي الزراعية في وادي مأرب بشكل خاص لهجوم كثيف من الكثبان الرملية إلى درجة أن نحو 80٪ من مساحتها المزروعة (110 هكتار تقريبًا) دُفنت تحت الرمال. أدّت هذه الظاهرة إلى تراجع شديد في حجم الأراضي الصالحة للزراعة، فبعد أن كانت السلة الغذائية لمأرب باتت 50% من أراضي مديريات مثل حريب تقريبا غير قابلة للزراعة بسبب التصحر والزحف الرملي. ويُشير المزارعون المحليون إلى أن هذا الزحف يحدث خلال مواسم الصيف وبداية الشتاء مع غياب إجراءات حماية فعالة من قبل الجهات الرسمية.
تُعد محافظة مأرب من أكثر المحافظات اليمنية عرضة للرياح الشمالية الشرقية القوية والموسمية، التي تنقل آلاف الأطنان من الرمال سنويًا لتغمر الأراضي الزراعية، وتغيّر ملامح الجغرافيا والاقتصاد المحلي.
وفقًا لتقرير صادر عن الهيئة العامة لحماية البيئة في اليمن (2023)، فإن ما يزيد عن 126مليون متر زراعي في مأرب مهدد بالاندثار بفعل التحرك المستمر للكثبان الرملية بمعدل يتراوح بين 3 إلى 5 أمتار يوميًا في بعض المناطق. وهذه نسبة كبيرة من إجمالي الأراضي الزراعية التي تقدر ب3500 الى 8000 كم مربع بحسب تقديرات مكتب الزراعة في المحافظة.
التغير المناخي يُعمّق الأزمة
في مزرعتها الصغيرة بمديرية الوادي، كانت أم ناصر تزرع الطماطم والبصل وبعض الحشائش التي تستخدمها في الطبخ أو تبيعها في السوق. تقول: "كانت الأرض تدر علينا خيرًا كثيرا، نأكل من خيراتها ونبيع الباقي، أما اليوم فلا شيء سوى الرمال."
تعكس قصة أم ناصر مأساة معظم النساء اللاتي يعتمدن على الزراعة كمصدر دخل وحيد، في ظل غياب فرص العمل، ومحدودية التعليم والخدمات، فحين تتقدم الرمال لا تبتلع فقط النبات بل تبتلع معها مصدر دخل وكرامة الأسر التي تعيش على الزراعة.
يرى المهندس الزراعي صالح مبخوت معيلي، مدير مكتب الزراعة في مأرب، " أن الزحف الرملي في مأرب ليس مجرد ظاهرة طبيعية بل نتيجة مباشرة لتغير المناخ وتراجع الغطاء النباتي، بالإضافة إلى الأنشطة البشرية غير المدروسة" ويضيف: "مع ارتفاع درجات الحرارة، وتكرار موجات الجفاف، تقل نسبة الرطوبة في التربة، ما يجعلها أكثر هشاشة وعرضة للتعرية".
ويوضح أن "الزحف الرملي يهدد أكثر من 40% من الأراضي الزراعية في المحافظة، وبحلول عام 2030، قد نفقد مناطق كاملة ما لم يتم التدخل عبر مشاريع مستدامة لحماية الأراضي بأنظمة مصدّات". ويتابع "كان يمكن إنجاز حزام أخضر، لكن لم يكن لدينا تجارب سابقة سوى في التسعينات في هذا المجال، تم خلالها اختيار قطعة أرض من قبل الهيئة الزراعية وتحويلها الى مشاتل وتم توزيعها على الناس بشكل مجاني والذين قاموا بزرعها لكن بعشوائية، إلا أنه شيئا فشيئا تم اهمالها. ومع استمرار الزحف الرملي، زادت معاناة المزارعين وعزف الكثير منهم عن الزراعة ".
تقول أم فراس وهي مزارعة في العقد الثالث من عمرها، "كنت أزرع البسباس والخيار وأروي الزرع كأنه من فلذات كبدي، لكن الرمل كان أسرع من الساقية ". وتُتابع بصوت مبحوح وهي تحرّك يديها المجرّحتين من محاولات فاشلة لحفر خنادق صغيرة حول مزرعتها، "أكبر حلم عندي اليوم ليس امتلاك بيت أو حتى بئر، بل سياج يحمي زرعي من الريح ولو قليلا"، مضيفة، "أثناء أشهر الصيف الثلاث، تهب ريح "الغوبة" وهي رياح شديدة رملية قوية تُغطي على كل شيء، حيث تتراكم الرمال عند جذوع الاشجار، فلا ينمو بعد ذلك الشجر ولا يقبل السقي بالماء لأن التربة الصالحة للزراعة تنقص بشكل كبير".
تنتقد أم فراس الدعم الذي تقدمه الدولة لمساعدة المزارعين المتضررين، فتقول أنه " لا يأتي إلا نادرا ولا يغطي كل المتضررين. لذلك نطالب بمشاريع تدعم الفلاحين وكذلك بتزويدنا بأشجار مقاومة للجفاف وحواجز رملية مستدامة وإلا ستستمر المشكلة ".
النساء أكثر المتضررات
تشير بيانات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أن أكثر من 65% من النساء في اليمن يعملن في الزراعة، إما بشكل مباشر أو في سلاسل التوريد الزراعي، ما يجعل من الزحف الرملي قضية نسوية بامتياز لا مجرد أزمة بيئية.
مع تراجع الزراعة نتيجة الزحف الرملي، تفقد النساء مصدر دخلهن وتجد الأسر نفسها في دوامة من العجز المالي. بحسب دراسة للشراكة العالمية للتعليم ( نشرت في 1مارس 2023)، اضطر الكثير من الفتيات إلى ترك مقاعد الدراسة لمساعدة أسرهن إما بالعمل الموسمي أو حتى بالزواج المبكر كحل اقتصادي.
"الأرض اللي كانت تحمينا، صارت تهددنا"،
تقول سامية وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها أُجبرت على الزواج بعد أن فشلت أسرتها في إعادة تأهيل مزرعة استأجرتها بعد نزوحهم من ريمة. وتضيف بحسرة "لو بقي الزرع، لكنت أكملت دراستي وأصبحت مهندسة زراعية".
مبادرات خجولة
حسب التقارير المحلية، فإن مشاريع التصدي للزحف الرملي تكاد تكون معدومة في مأرب، باستثناء بعض المبادرات المحدودة من منظمات دولية. إحدى هذه المبادرات هي مشروع تجريبي لتثبيت الرمال عبر زراعة الأشجار المحلية، توقف بعد عام فقط من إطلاقه بسبب نقص التمويل.
هذا المشروع أطلقه البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وصندوق البيئة العالمي للتصدي للزحف الرملي في الحديدة وحجة والمحويت وبعض مناطق مأرب لكنه توقف في مأرب وتواصل في بقية المحافظات من عام 1996 إلى 2003. وقد استفاد منه أكثر من 3000 مزارع في المناطق المستهدفة وتضمّن زراعة أشجار للحماية من الكثبان الرملية مثل "الأثل" و"السيسبان" و"الكاسيا"، وإنشاء مصدات رياح مصنوعة من القش والحصى، وتدريب المزارعين على طرق حماية التربة والزراعة المستدامة، وحفر آبار سطحية لتقليل الاعتماد على مصادر المياه المتدهورة.
وتوقف المشروع في مأرب بسبب الوضع الأمني غير المستقر من نهاية التسعينات حتى بداية الألفية وغياب المتابعة المؤسسية المحلية، إذ لم يكن هناك سلطة بيئية ولا مكتب زراعة لدعم استمرار المشاريع، بالإضافة إلى عدم تضمين مأرب ضمن الأولويات المناخية في الإستراتيجية الوطنية.
يُبيّن مدير مكتب الزراعة في مأرب، صالح بن معيلي أن " في المناطق الجافة خاصة في مديرية الوادي، يساهم ارتفاع درجة الحرارة وتناقص الأمطار في زيادة التصحر وتواتر العواصف الرملية. وكلما اشتدت قوتها، كل ما كان ضرر الزحف أكبر"، مضيفا أن " الجفاف الذي تعرضت له المنطقة وكذلك الصراعات التي حدثت في البلاد أدّت الى إهمال الأراضي الزراعية وزيادة تعرية التربة، مما سمح بتنقل الرمال وبزيادة الزحف نحو المناطق الزراعية."
"نحن نزرع رغم الرمل"
رغم قسوة المناخ وخذلان الدولة، تواصل كثير من نساء مأرب التمسك بالأرض كما يتمسكن بالحياة ذاتها لأن ما يربطهن بالتربة ليس فقط مصدر رزق بل انتماء وهوية. في هذا الصدد، تقول آيات ثابت، مسؤولة إدارة المشاريع في مؤسسة سد مأرب"ما نراه في مأرب ليس فقط زحفًا رمليًا بل زحفا للفقر والخذلان على جسد النساء الريفيات، ومع ذلك فإن كثيرات منهنّ يواصلن الزراعة في ظروف قاسية فقط لأنهن يؤمنّ أن الأرض آخر ما تبقى لهن من الوطن".
وتضيف: " الزحف الرملي من المشاكل التي أثّرت على المزارعين بشكل كبير وأتلفت المحاصيل الزراعية لأن العواصف الرملية أدّت إلى دفن المحاصيل وتقليل نسبة خصوبة التربة وانسداد قنوات الري والآبار ".
من جهتها، تعتبر شيماء حميد، مهتمة في قضايا البيئة والمناخ ومدربة أهداف التنمية المستدامة وبناء السلام، أن النساء في المناطق المتأثرة بالزحف الرملي، بحاجة لصناديق دعم طارئة لإعطائهن تعويضات ولدمجهن في خطط إعادة التأهيل البيئي، " فحين تموت الأرض، تُسرق كرامة النساء وهذا أمر لا يُعوّض بمجرد الكلام. طبيعة التربة الرملية في بعض مناطق مأرب تجعلها أكثر عرضة للتحرك والإنجراف وكذلك سوء إدارة الموارد الطبيعية وغياب التخطيط البيئي في مجال التنمية الزراعية والعمرانية. لذلك تحتاج النساء إلى إعادة تأهيل لكي تتعلمن كيف تتصرفن في أراضيهن".
تقول أم أحمد وهي إحدى المزارعات التي تعرضت أرضها للزحف الرملي بالكامل: "جاءتنا لجان حكومية صوّرت أراضينا وجمعت من عندنا العديد من المعلومات حول أوضاعنا وقدمت لنا الوعود ورحلت دون أن تقدم لنا أية حلول. " وتتابع مستنكرة " هذه الأرض ليست فقط مجرد تراب، بل هي تختزل تعب السنين وأحلام أولادنا اللي ضاعت ".
من جانبه، يعترف المهندس صالح بن معيلي، مدير مكتب الزراعة في مأرب بوجود تحديات كبيرة أمام المؤسسات الرسمية في مواجهة الزحف الرملي، حيث يقول "نحن نواجه نقصًا في الموارد والدعم وهناك خطط وخرائط لتثبيت الرمال وإنشاء مصدات للرياح، لكن تنفيذها يحتاج إلى تمويل خارجي وتعاون مع منظمات بيئية".
وأضاف: "ندرك تمامًا معاناة النساء في المناطق المتضررة ونعمل على إدماجهن في المشاريع الزراعية القادمة ولكننا بحاجة إلى تكامل حقيقي بين الجهات الرسمية والدولية والمحلية".
أمام هذه الكارثة البيئية التي تزحف يومًا بعد يوم يبقى السؤال معلقًا في الهواء المعبأ بالغبار ... هل ستظل نساء مأرب يواجهن الرمل وحدهن؟
أم ناصر رغم كل ما فقدته ما تزال تحتفظ ببذور طماطم في كيس صغير. "يمكن السنة الجاية أزرع" تقولها بابتسامة باهتة. وتضيف" المنطقة تحتاج لجرافة لكي تقلب التراب حتى تُصبح بعد ذلك التربة صالحة للزراعة. أما الآن، فلم أعد أستطيع أن أزرع إلا علفا للماشية وكل فترة يسؤء الحال أكثر".
لقد تم انتاج هذا المقال ضمن مشروع اصوات نساء بلا حدود، مبادرة من منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ)، وبدعم من مركز الازمات التابع لوزارة اوروبا والشؤون الخارجية
تعليقات