لماذا تدفع المرأة العراقية ضريبة غالية لطلب العلاج النفسي؟
- تمارة عماد

- 27 أكتوبر
- 4 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 30 أكتوبر

تتحمل المرأة العراقية ضغوطاً مركبة قلما يلتفت إليها الخطاب العام، ضغوط تبدأ بتراكم آثار عقود من الحروب والنزاعات، مروراً بالأعباء الأسرية والاقتصادية التي تضاعفت بفعل الظروف المعيشية الصعبة، وصولاً إلى أشكال متعددة من العنف المجتمعي والأسري الصامت. هذه البيئة المعقدة تهدد استقرارها النفسي والذهني وتجعل من طلب العلاج وصما إجتماعيا في غالب الأحيان.
ترى المدافعة عن حقوق الإنسان، سارة جاسم، أنه
"لا يزال يُنظر إلى اهتمام المرأة بصحتها النفسية وكأنه نوع من الرفاهية، وليس أساساً لقدرتها على الإستمرار والعطاء".
هذا الوصم يحول دون طلبها المساعدة، ويجعلها أكثر عرضة للانهيار، وهو ما ينعكس سلباً على أسرتها وعلى المجتمع بأكمله.
لكن الأمر يصبح أكثر خطورة، بحسب جاسم، حين يتم استغلال الإضطرابات النفسية لدى النساء في ساحات المحاكم، ففي نزاعات الإنفصال والحضانة، يتم "استخدام الصحة النفسية كذريعة للطعن بأهلية المرأة في رعاية أطفالها وإسقاط حضانتها. "هذا الاستغلال لا يضاعف آلام المرأة التي تبحث عن الشفاء فحسب، بل يحول خطوتها الشجاعة في طلب العلاج إلى "وصمة وعقوبة اجتماعية وقانونية جائرة."
إن اللجوء إلى سجلات الطبيب النفسي كسلاح قانوني ضد النساء هو إجهاض لأي جهود توعية بأهمية العلاج، فالمرأة تُجبر على الإختيار بين صحتها النفسية، وبين حماية حقها في حضانة أطفالها. بالتالي، قد تتحول مراجعة الطبيب النفسي إلى دليل إدانة. في هذا الصدد، تشير الناشطات الحقوقيات إلى أن هذا الاستغلال يتم عبر ابتزاز الزوجات والأمهات بالتهديد بسحب الحضانة، في بيئة قانونية تضع أعباء مادية ونفسية إضافية على الأم المطلقة.
الاحتراق الذهني...الثمن الذي تدفعه المرأة العاملة
إلى جانب العنف الأسري، تواجه المرأة العاملة في العراق نوعاً آخر من الاستنزاف يسمى "الاحتراق الوظيفي" (Burnout). هذا ما حدث لـ "ن.ي." (33 عاماً)، التي شعرت بأن وقتها وجهدها "يُستنزفان بلا جدوى"، بعد عمل يقارب 12 ساعة يومياً دون توقف. هذا الإرهاق أثّر سلباً على صحتها، فباتت تُعاني من الأمراض بشكل متكرر.
تصف ن.ي. الرد الصادم لمديرها عندما طلبت منه إعطائها إجازة بعد وعكة صحية شديدة، إذ قال لها: " ما حصل معك ليس بسبب العمل، لذلك استمري فيما تفعلينه". هذه البيئة السامة دفعتها لاتخاذ قرار الرحيل، مؤكدة أن "الأمراض كانت هي الحد الفاصل في اتخاذ هذا القرار".
تعكس قصة ن.ي. الضغط المضاعف على الشريحة النسائية التي تتمكن من دخول سوق العمل. ورغم أن نسبة النساء العاملات في العراق لا تتجاوز 12% من القوى العاملة، فإن هذه النسبة القليلة هي الأكثر عرضة للضغوط المزدوجة، إذ يُتوقع من المرأة العاملة في المجتمعات العربية أن تحقق نجاحاً مهنياً، مع الإلتزام الكامل بدورها التقليدي في الأسرة، ما يؤدي حتماً إلى المعاناة النفسية التي قد تصل إلى حد الاحتراق الذهني.
اضطراب ثنائي القطب: فهم المرض هو الخطوة الأولى نحو العلاج
تختبر "مروة كريم" (اسم مستعار) 27 عامًا، المقيمة في بغداد، الضغوط والحزن الداخلي بشكل مستمر، ففي مجتمع يرى الألم النفسي ضعفاً، عاشت الفتاة في عزلة وهي تعاني مما ظنته "مجرد حزن أو شعور بالوحدة، لكنه كان شيئا ينهش روحي ببطء". تطور الأمر إلى نوبات غضب غير مبررة وعزلة تامة، حتى فقدت السيطرة على نفسها.
كانت والدتها هي المنقذ لها حين أصرت على أخذها للطبيب النفسي رغم معارضتها لذلك. وهناك، تلقت التشخيص بأنها تُعاني من اكتئاب مصحوب باضطراب ثنائي القطب. يُعدّ هذا الاضطراب حالة معقدة قد تتضمن نوبات من القلق الشديد والسوداوية أو الذهان. ويؤدي تركها دون علاج إلى مشكلات خطيرة قد تشمل صعوبات في التعايش مع الآخرين أو ضعف الأداء في العمل والدراسة، وصولاً إلى محاولات الإنتحار.
تقول مروة: "حين عرفت أن ما أعانيه ليس ضعفاً، بل هو اكتئاب مصحوب باضطراب ثنائي القطب، كانت تلك أول خطوة نحو الشفاء."، مُشدّدة على أن الصحة النفسية ليست رفاهية، بل هي "الأساس الذي يجب أن نبني عليه حياتنا."
بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن إنفاق العراق على الصحة النفسية لا يتجاوز 2% من ميزانيته الإجمالية المخصصة للقطاع الصحي، رغم أنه شهد ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الاكتئاب، قُدّرت نسبتها بـ 45%، كنتيجة مباشرة للظروف الأمنية والاقتصادية والاجتماعية المضطربة.
وفي سياق عالمي يشير تقرير لمنظمة الصحة العالمية إلى أن نحو مليار شخص حول العالم يعانون من اضطرابات نفسية، بالتالي، النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بمرة ونصف تقريباً من الرجال.
يشير تقدير البنك الدولي والأمم المتحدة لعام 2024 إلى أن إجمالي عدد السكان في العراق يبلغ حوالي 45.4 مليون نسمة. وتبلغ نسبة الإناث من إجمالي السكان 49.8%، مما يقدر عدد النساء بحوالي 22.6 مليون امرأة.
يُصبح إنكار هذه المشكلة في العراق آلية دفاع مجتمعية واسعة تهدف إلى تجاهل حجم الأزمة.
الحاجة إلى يقظة مجتمعية... التوعية هي المفتاح
يؤكد الدكتور أنور جبار، الأخصائي في الطب النفسي، أن الوصم الاجتماعي هو "أكبر عائق يمنع الأفراد من طلب المساعدة". ويوضح أن الخوف من حكم الآخرين يدفعهم إلى إخفاء معاناتهم، مما يفاقم الأمراض النفسية لتتحول إلى سلوكيات غاضبة أو انعزالية، كما في حالتي مروة ونرمين.
ويشدد الدكتور جبار على أن فهم الأمراض النفسية هو الخطوة الأولى نحو الشفاء. " يجب إدراك أن ما يعانيه المريض هو مرض، وليس ضعفاً في الشخصية"، مؤكدا على ضرورة تكثيف التوعية من خلال تنظيم حملات متعددة من قبل الجهات الصحية الحكومية والمنظمات غير الحكومية.
لا يمكن فهم معاناة المرأة العراقية بمعزل عن السياق السياسي، فقد خلّفت عقود من النزاعات، بدءاً من تأثيرات الغزو الأميركي عام 2003 وصولاً إلى انتهاكات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، صدمات وأمراضاً نفسية عميقة. وتشير الدراسات إلى أن الصدمات المتراكمة تسببت في ارتفاع معدلات اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والقلق، ففي المناطق التي تعرضت للعنف الشديد، كانت معدلات انتشار اضطراب ما بعد الصدمة أعلى بشكل كبير.
إن هذه التراكمات الناجمة عن الحرب والقلق المستمر تشكل أرضية خصبة لتفاقم الأمراض النفسية غير المشخصة. هذا ما أكده الدكتور أنور جبار، كما أن الوصم الاجتماعي هو العائق الأكبر للبحث عن العلاج، حيث يدفع "الخوف من حكم الآخرين" الناس إلى إخفاء معاناتهم، مما يفاقم الأمراض ويحولها إلى "سلوكيات غاضبة أو عادات انعزالية".
كسر حاجز الوصم يتطلب "جهداً جماعياً وفهماً"، من خلال استخدام لغة واعية عند مناقشة الصحة العقلية، والتأكيد على أن الأمراض النفسية هي حالات طبية تستدعي الرعاية.
وفي الختام، تؤكد سارة جاسم: "أن الاستثمار في الصحة النفسية للنساء العراقيات هو استثمار في حاضر العراق ومستقبله" ، لتربية جيل أكثر وعياً وبناء مجتمع أكثر استقراراً.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)






تعليقات