top of page

محافظة ميسان: كيف تجفف حقول النفط هور الحويزة ؟

تحقيق سهى كامل، ماريا طلال ومريم عبد الواحد 


لم يكن رسول نور علي، 28 عاماً، يتوقع أن يفقد جواميسه لتواجه الموت واحدة تلوى الأخرى بسبب جفاف هور الحويزة. اليوم لم يتبقّ له سوى 28 جاموسة من مجموع 48 كان يمتلكها.

يعيش رسول في بيت من القصب، في آخر منازل قرية «أبو خصاف» التابعة لهور الحويزة جنوبي العراق ويعمل في صيد الأسماك وتربية الجواميس، التي يعتمد عليها في إنتاج الحليب والجبن العربي والقيمر الذي يُصنع من حليب الجاموس والأبقار.

يعود الشاب بذاكرته إلى أيام الوفرة قائلا: " في عام 2021،كنت أبيع يومياً ما لا يقل عن 50 ليتراً من الحليب، بسعر 3000 دينار عراقي للتر، وأجني 150 ألف دينار عراقي (أي ما يعادل 100 دولار أميركي) يومياً فقط من بيع الحليب، أما زوجتي وأمي وإخوتي فكانوا يصنعون الجبن العربي من حليب الجواميس، ونبيع يومياً ما لا يقل عن 4 إلى 5 كيلو من الجبن العربي بـسعر 9000 دينار عراقي (ما يعادل 8 دولار أميركي).

يصف رسول الحياة في هور الحويزة قبل الجفاف:

اعتدنا أن نترك الجواميس لتسبح في مياه الهور وترعى من أعشابه، بينما نذهب نحن لصيد الأسماك، كانت مياه الهور مليئة بسمك البني والسبطي والغريب، وكنا نبيع 4 كيلو سمك بني بسعر 30 ألف دينار عراقي (20 دولار أميركي) وكيلو السبطي بـ6 آلاف دينار عراقي، ونجني يومياً ما لا يقل عن 500 ألف دينار عراقي (مايعادل 330 دولار أميركي) فقط من صيد وبيع السمك..

ولكن مع نهاية عام 2021، تغيّرت حياة الشاب تدريجياً، حيث لاحظ خلال الصيف أن منسوب مياه هور الحويزة بدأ يتناقص، والجواميس أصبحت عاجزة عن السباحة للبحث عن الأعشاب نتيجة للجفاف، ثم تحوّل مجرى الهور إلى مستنقع طيني، لذلك كان يتركها ترعى حول البيت لربما تحظى بالمياه من البٍرك المائية المنتشرة في الحقول القريبة من الهور، لتصل إلى منطقة حقل الحلفاية النفطي الذي لايبعد عن منزله أكثر من 300 متر.

الهور في سنة 2021
الهور في سنة 2021

ولكن في ليلة من ليالي تشرين الأول/ أكتوبر 2022، لاحظ أن عدة جواميس فقدت نشاطها، وأضحت عاجزة عن الحركة، نتيجة شرب مياه ملوثة، " هذا ما عرفته لاحقاً من الطبيب البيطري الذي أحضرته خصيصاً من البصرة لإنقاذ حياة الجواميس، والذي أخبرني أنها شربت مياه مخلوطة بالنفط وانتشر السم في دمها، لذلك فإنها ستموت قريباً ولا جدوى من العلاج"، يقول رسول بحسرة.

 ومع بداية عام 2023، فقد الشاب 11 جاموسة، ثم تسعة في منتصف العام 2024، ليتبقى لديه حاليا 28 جاموسة فقط. يصف هذا الوضع البائس بالقول:  "توقفت عن بيع الحليب والجبن، لأن الجاموس لا يدّر الحليب إذا كان جائعاً، والجبن يحتاج كميات كبيرة منه، كما توقفت عن الصيد أيضاً، ولتأمين قوت عائلتي اليومي حاليا، أبيع كل فترة جاموسة بمبلغ مليون دينار عراقي (ما يعادل 600 دولار أميركي تقريباً). وإذا ما استمر الجفاف سأكون مجبراً على بيعها جميعها ومغادرة هور الحويزة إلى حياة المدينة التي لا أعرف عنها شيئاً".

يشرح هذا التحقيق كيف جف حول الحويزة في جنوب العراق نتيجة الأنشطة النفطية في المنطقة والتغيرات المناخية وتأثير ذلك على صحة السكان ومورد رزقهم، أمام تخاذل السلطات المحلية في إيجاد الحلول.  


تظاهرات متكررة للسكان للمطالبة بالماء


لم يكن رسول، الأهواري الوحيد الذي لاحظ نقص المياه وجفاف الهور، بل أيضاً عشرات العائلات الأخرى، التي خرجت  في مظاهرة كبيرة للمطالبة بالمياه. " مع بداية العام 2022، يروي رسول،  نظّمنا مظاهرة حاشدة ضمت أكثر من 2000 شخص من سكان هور الحويزة، سرنا على الأقدام إلى أمام مبنى محافظة ميسان، وطالبنا المحافظة ومديرية الموارد المائية بفتح الإطلاقات المائية لهور الحويزة والتي تصلنا من نهر المشرح، الذي قطعوا مياهه عن الهور. وبعد عدة ساعات، أعادوا فتح مياه النهر لمدة لا تتجاوز 3 ساعات ثم قطعوها مجدداً". ويضيف " تتالت المظاهرات إثر ذلك وحملت جميعها عنوان المطالبة بالماء، فنحن نريد فقط عودة مياه نهر المشرح إلى هور الحويزة، للحفاظ على أرزاقنا وجواميسنا ولتعود الأسماك لمجرى الهور، لأنها المصدر الوحيد لبقائنا على قيد الحياة، كما أننا نعيش في بيوت من القصب، وليس لدينا نظام استحمام داخل المنازل، لذلك فنحن نستحم في مياه الهور ونغسل ملابسنا فيها أيضاً. لكن للأسف، لم نتلق ردا حتى الآن على مطالبنا".

يعيش سكان الأهوار في جزر صغيرة طبيعية، ويستخدمون نوعا من الزوارق يسمى "المشروف" في تنقلهم وترحالهم، وتشير الدراسات والبحوث التاريخية إلى أن الأهوار هي المكان الذي ظهرت فيه ملامح السومريين وحضارتهم، كما توضح ذلك النقوش الأثرية المكتشفة لحضارة سومر المائية الشهيرة .وتتميز بتنوّع الحياة البرية والمائية فيها، كما أنها تمثل خزّانا مائيا كبيرا للمياه العذبة التي يمكن أن يستفاد من مياهها للشرب، ويطلق عليها "الأهوار" أي المناطق المنخفضة التي تغطيها المياه في جميع فصول العام.

وفي 17 تموز/ يوليو 2016، ضمت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) الأهوار الواقعة في جنوب العراق إلى قائمة التراث العالمي.

تشكّل الأهوار في الجنوب العراقي الحوض الطبيعي لنهري دجلة والفرات وتوابعهما، تكوّنت منذ آلاف السنين من تغذية هذين النهرين، أهمها أهوار الجبايش والحمّار والحويزة، ومجموعة من المسطحات المائية المتصلة ببعضها، موزعّة على محافظات البصرة وذي قار و ميسان، على أرض تزيد مساحتها عن 3 ملايين دونم جنوبي العراق.

وينقسم هور الحويزة  بين محافظتي البصرة وميسان داخل العراق، وخارجه بين العراق وإيران، وتصل مساحته القصوى إلى 3000 كم2 تقريباً، تزيد وتنخفض بحسب نسبة المياه. ويقع تحديداً، شرقي نهر دجلة، ونهر السويب جنوبا (أحد أنهار العراق الصغيرة ومن الروافد المهمة المغذية لشط العرب)، ويأخذ مياهه من نهر المشرح والكحلاء ونهر الكرخة (ينبع من الأراضي الإيرانية)، ويُفرغ مياهه في نهر دجلة ثانية.


الأنشطة النفطية ساهمت في الجفاف 


يعود تاريخ استكشاف النفط في هور الحويزة إلى العام 1975، عندما أجرت الشركة الفرنسية  Compagnie Générale de Géophysique (التي أصبح اسمها Viridien في 2024) مسوحاتها داخل الهور، وحفرت بئر الحويزة 1، وعملت على استخراج النفط لمدة 10 أعوام، ثم توقف نشاطها في العراق بسبب الحروب التي خاضتها البلاد. 

بعد سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين في العام 2003، بدأت شركات النفط المحلية والأجنبية بتوسيع عملها النفطي في مناطق جنوب العراق، على رأسها شركة  بتروجاينا الصينية  التي عملت بالتعاون مع نفط ميسان وهي إحدى تشكيلات وزارة النفط العراقية، على إنشاء حقل "الحلفاية" النفطي الذي بدأ العمل عام 2009 ويحتوي على أكثر من 300 بئر نفطي وثلاث منشآت معالجة مركزية للنفط الخام، ويقع  بين بيوت السكان الأصليين،  على بعد 300 متر من مجرى مياه هور الحويزة في محافظة ميسان. 

في العام 2011، طرحت شركة نفط ميسان، مجموعة من المناقصات (عروض تنافسية)  ضمن ما يعرف بجولات التراخيص الحكومية لتطوير نفط وغاز العراق، وذلك لجلب المزيد من الشركات المحلية والأجنبية للاستكشاف والتطوير في مناطق جنوب العراق. 


يتغذى هور الحويزة على 3 أنهار رئيسية هي الكرخة والمشرح والكحلاء. ومنذ أكثر من عقدين انخفضت كمية الإمدادات المائية الواصلة إلى العراق من نهر الكرخة، الذي يبدأ مجراه من منطقة الأحواز في إيران ويصب في هور الحويزة، بعد أن أنشأت إيران سد الكرخة على نهر الكرخة  في إقليم خوزستان جنوب غرب إيران وبدأ العمل عام 2001، بسعة تخزينية ب 5 مليار متر مكعب وقدرة إنتاج كهربائي تصل إلى 520 ميغاواط، مما أدى إلى انخفاض الإمدادات المائية من الجانب الإيراني للنهر إلى هور الحويزة، فاعتمد الهور على الأنهار التي تنبع من الجانب العراقي وهي المشرح والكحلاء.

لكن مع منتصف العام 2021، بدأ سكان الهور بملاحظة انخفاض منسوب المياه الواردة من نهر المشرح الذي يتفرع من الجانب الأيسر لنهر دجلة، في ناحية المشرح التي تبعد حوالي 25 كيلومتر عن مركز مدينة العمارة في محافظة ميسان جنوب العراق ويصب في هور الحويزة.

يقول الناشط البيئي، مرتضى الجنوبي، "منتصف العام 2021، انخفض منسوب مياه نهر المشرح، فتواصلنا مع مديرية الموارد المائية في محافظة ميسان، وطالبنا بفتح مياه النهر لتصل إلى شط هور الحويزة، لكن دون استجابة من طرفها"، مضيفا " في البداية لم يتم قطع الإطلاقات بشكل كامل، وكانت كميات المياه التي تصل قليلة لأجزاء بسيطة من القرى والأرياف، ثم انخفضت الكميات تباعاً، مما أدى إلى جفاف مساحات واسعة من الهور".


نهر المشرح
نهر المشرح

أما نهر الكحلاء، الذي يتفرع من نهر دجلة ويصب في هور الحويزة، فقد انخفضت مياهه تدريجياً أيضاً، حيث يقول الناشط البيئي، مصطفى هاشم، ابن قرية أبو خصاف في هور الحويزة، التي لا تبعد أكثر من 300 متر عن حقل الحلفاية النفطي، " حصل تجاوز على الحصة المائية لسكان القرى التي تعتمد على مياه نهر الكحلاء،  منها قرى أبو خصاف والدبن والمويلحة، من عدة جهات، في مقدمتها شركة "بتروجاينا النفطية الصينية" المستثمرة لحقل الحلفاية النفطي، والتي أنشأت في العام 2016 محطة ضخ مائية اسمها (جي أر اس) على النهر لسحب مياهه إلى حقلها النفطي، وتحتوي على 6 توربينات و5 أنابيب، يضخ كل منها حوالي 500 متر مكعب من المياه في الساعة، ليكون المجموع الكلي للمحطة 24 ألف متر مكعب في الساعة. هذه الأنابيب الـ5 تغذي حقل الحلفاية النفطي، حيث يحتاج كل برميل نفط واحد إلى 3 براميل مياه، إضافة إلى إنشاء 3 محطات لحفر الآبار حول حقل الحلفاية لاستخراج المياه الجوفية، واستخدامها في إنتاج النفط.

ويوضح هاشم، أن الحكومة العراقية أعطت الشركة الصينية رخصة استغلال حقل الحلفاية النفطي، ما منحها الحق بإنشاء محطات الضخ على الأنهار الواقعة ضمن الرقعة الجغرافية للحقل، ومنها نهر الكحلاء  الذي يمر وسطه، بالإضافة إلى حفر الآبار الجوفية في نفس المنطقة. 

وأدى سحب المياه السطحية لنهر الكحلاء والمياه الجوفية عن طريقة حفر الآبار، إلى خسارة السكان الأصليين لحصتهم المائية من النهر والتي كانوا يستخدمونها في الزراعة والشرب، ما انجرت عنه  هجرة 200 عائلة من سكان تلك القرى إلى مراكز المدن بالبصرة والعمارة والناصرية والكحلاء. وكل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى جفاف هور الحويزة.

في الثامن من فبراير/شباط 2023، كشف وزير النفط، حيّان عبد الغني عن الرقع الاستكشافية والشركات الفائزة بجولة التراخيص الخامسة،  والتي تتضمن تطوير حقل الحويزة النفطي في محافظة البصرة، وتمت إحالته إلى شركة  جيو جيد الصينية. وفي 22 كانون الثاني/ يناير 2025 أعلنت نفط ميسان عن مناقصة لحفر المزيد من الآبار في هور الحويزة.

وفي هذا السياق، يؤكد هاشم، أن هور الحويزة  أصبح رسمياً تحت تصرّف شركة «جيو جيد» النفطية الصينية، التي تعمل حالياً على استكشاف منابع النفط داخل الهور عن طريق المسح الزلزالي لعمق الهور ومناطق جريان مياهه سابقاً، لفترة مدتها 3 سنوات ، " لذلك نأمل أن يصل صوتنا إلى الحكومة ونتمكّن من وقف عملها قبل انتهاء المدة." 


الحكومة تنفي نيتها تجفيف الأهوار


جاء الإعلان الحكومي عن تطوير حقل الحويزة النفطي بمثابة صاعقة نزلت على سكان الهور الذين كانوا لازالوا يأملون في عودة المياه إليه، وأصبحوا يعتقدون بأن هناك خطة حكومية متعمّدة لتجفيف كامل هور الحويزة وتحويله إلى حقل نفطي بحلول العام 2026.

ينفي استشاري رئيس الحكومة العراقية، ورئيس قسم علوم البيئة في جامعة الكرخ، ابراهيم سوداني، وجود أية خطة حكومية لتجفيف الأهوار بشكل عام وهور الحويزة خصوصاً، ويُبيّن أنه " على العكس تماماً، فالحكومات التي أعقبت سقوط النظام العراقي في العام 2003، هدمت السدادة الترابية التي كانت تحجز مياه الأنهار عن هور الحويزة على الحدود العراقية الإيرانية. ولكن المشكلة التي واجهت العراق، هو أنه بلد نفطي، يعتمد بشكل كلي في اقتصاده على وارداته من النفط والغاز، وأكثر المناطق الواعدة نفطياً موجودة في الجنوب وقريبة من الأهوار"، مضيفا " الأكيد أن الحكومة العراقية عندما أطلقت جولات التراخيص لتطوير النفط والغاز مع بداية عام 2011، لم تكن على دراية بالأثر البيئي لذلك، وتم توقيع العقود مع الشركات المطورة دون الإشارة إلى الشروط الآمنة للبيئة. لكن " في جولات التراخيص التالية، ألزمت الحكومة جميع الشركات المحلية الأجنبية بشروط حماية البيئة. وحتى شعلات الغاز في السماء،  قللت عددها بنسبة 17%، وهي تعمل وفق خطة تفرض أنه بحلول العام 2080، لن يكون هنالك أي شعلات غازية تبعث غاز الميثان في سماء العراق"، يؤكد السوداني.

 ولكن ألا يمكن استدامة الأهوار وتطوير الصناعات النفطية في نفس الوقت؟ "نعم، ذلك ممكن، يجيب السوداني، "والحكومة الحالية بدأت تهتم بقضايا الاستدامة والحفاظ على البيئة، وألزمت الشركات المحلية والأجنبية بطرق ومقاييس العمل الصديقة للبيئة". وذلك خاصة، بعد توقيع العراق لاتفاقية باريس في العام 2021، حيث التزمت الحكومات العراقية بتخفيف الانبعاثات الغازية، وضبط عمل حقول النفط، والحفاظ على بيئة الأراضي الرطبة في المنطقة الجنوبية.

وحول جفاف الأهوار، يفسّر الخبير البيئي، بأن" 60 بالمئة من مساحة الأهوار تحوّلت إلى صحراء، ولا يمكننا الآن أن نستعيد أهوار السبعينات ولا أهوار التسعينات ولا حتى أهوار 2004 أو 2005، لأن العراق عملياً يعاني من نقص المياه وتأثير التغير المناخي، ولا يستطيع أن يُزوّد أكثر من 30 إلى 35 بالمئة من مناطق الأهوار بالمياه."

 

الهجرة المناخية، قدر لا مفر منه 


تشتهر الأهوار بشجيرات القصب التي تنمو في الماء، فيتم قصها وتقشيرها وتنعيمها، وتحويلها إلى "باري" (حصيرة من القصب) أو بساط أو فراش أو حتى سقف لكوخ صغير. هذه الشجيرات اختفت مع اختفاء المياه. 

حسن نور، شاب عراقي من سكان هور الحويزة، لم يعرف منذ ولادته مهنة سوى صناعة "الباري" أو باللهجة الجنوبية "البواري"، إلى أن أجبره الجفاف على مغادرة أرضه ودياره. يقول: " اضطررت إلى مغادرة المنطقة مع أختي منذ نحو 5 أشهر، بعد أن أصبحنا غير قادرين على صناعة الباري، الذي كان يمثل مصدر رزقنا الأساسي". يبتسم نصف ابتسامة ويضيف: " في السابق كنا نفخر بقصب هور الحويزة، ونقول للضيوف القصب سيحاصركم من كل الاتجاهات، اليوم حاصرنا الجفاف وأرغمنا على مغادرة أرضنا وخسارة أرزاقنا".

انتقل حسن الذي لم يتجاوز الـ25 من عمره، كغيره من عائلات هور الحويزة إلى قضاء الكحلان، " لم أكن من أوائل العائلات التي غادرت، بقيت متمسكاً بأرضي إلى أن خسرت كل شي، حتى بيتي أصبح غير صالح للسكن، لأن الماء هو عنوان الحياة."

يعمل حالياً كعامل يومي بأجر زهيد لا يوّفر له أبسط متطلبات حياته اليومية، وأكثر ما يحزنه أنه تحوّل من شخص منتج إلى عامل أجير، حسب تعبيره، يقول: " في السابق كنا نفخر بمنتجاتنا ونحكي للزبون عن مراحل صناعة الباري، وارتباطها بهوية الأهوار وأصالة هذا المنتج المصنوع يدوياً، وكان عملنا يكفينا لدرجة أننا لم نفكر يوماً بتغييره، لكن اليوم شغلي غير مستقر ويعتمد على الطلب، فأعمل يوما وأجلس أياما في البيت عاطلا، هذه هي حالتي بعد الهجرة والجفاف".


تعدد الأمراض بسبب التلوث النفطي


شقيقة حسن، حياة، البالغة من العمر 27 عاما، وجدت نفسها في مواجهة خطر آخر، عدا قطع مورد رزقها واضطرارها للهجرةـ،  فنشاط حقل الحلفاية النفطي الذي لا يبعد أكثر من 300 متر عن بيتها في هور الحويزة، تسبّب بمرضها، لتبدأ رحلة علاج طويلة لاتزال متواصلة منذ عامين.

تحكي حياة قصتها قائلة: " منذ نحو عامين، بدأت أشعر بضيق في التنفس وصعوبة في الكلام، زرت العيادات القريبة من منطقتنا. أعطاني الأطباء بعض الأدوية، ووصّفوا حالتي بأنها بسبب تلوّث الهواء،  ثم بدأت تظهر على جسدي كتل سوداء ناعمة، وخلال مراحل العلاج، اكتشفت أنني أعاني من تضخم في الغدة الدرقية". بعد انتقال حياة مع أخيها إلى قضاء الكحلان، زارت عدة مستشفيات ومختبرات لتتابع علاجها، وتبيّن خلال رحلة العلاج أنها مصابة بورم الغدة الدرقية الحميد.

تُبيّن حياة أنها ليست المريضة الوحيدة بهذا الورم في منطقة هور الحويزة، بل ظهرت أعراض هذا المرض أيضاً  لدى جارتها وابنتها، وكذلك لدى السكان الذين يقيمون في البيوت القريبة من بيتها، حيث أن معظمهم أصيبوا بنفس المرض. 

يربط الدكتور محمد سعيد ناجي، اخصائي أمراض الجهاز التنفسي والأمراض الصدرية في مدينة ميسان، بين تلوث البيئة وعمل الغدة الدرقية، حيث يشير إلى أنه " توجد مؤشرات علمية على أن بعض المواد الكيميائية الموجودة في مناطق بيئية تحتوي على نشاط صناعي أو نفطي، يمكن أن تؤثر على وظائف الغدة الدرقية لأنها حسّاسة جداً للمواد الكيميائية، مما ينعكس على إنتاج هرمونات (تي 3 و تي 4). ومن هذه المواد الكيميائية نذكر: الهيدروكربونات العطرية المتعددة التي تنتج من احتراق النفط والغاز، والتي قد توجد في الماء أو التربة، مركبات الفلور، الكلور، البروم التي تتراكم في الجسم وتؤثر على توازن الغدة، المعادن الثقيلة مثل الزئبق والرصاص والكادميوم، والتي قد تكون موجودة في التربة أو الماء أيضاً، ولها انعكاس على نشاط الغدة الدرقية".

ويؤكد الدكتور ناجي أن قلة الخدمات الصحية في محافظة ميسان، وغياب الفحوصات الطبية الدورية التي تكشف الأمراض المبكرة، تساهم في زيادة اختلالات عمل الغدة الدرقية وظهور أمراض مثل: قصور الغدة الدرقية (Hypothyroidism) وتضخم الغدة الدرقية (Goiter).

ويفسّر أيضا أن " التعرض للمواد الكيميائية في المناطق التي تحتوي على نشاط صناعي أو نفطي أو معامل بتروكيمياويات، يمكن أن يكون له تأثيرات خطيرة ومزمنة على الرئتين، هذه المواد قد تكون على شكل غازات، أبخرة، جسيمات معلقة، أو سوائل تتبخر، وتسبب ضيقا في التنفس والتهابات وتهيجات حادة في مجرى الجهاز التنفسي، سعال مزّمن أو احتقان حاد في الحلق والأنف وصوت صفير عند التنفس. وتحدث هذه الأعراض غالباً بسبب استنشاق غاز ثاني أوكيسد الكربون والأمونيا والأبخرة النفطية مثل البنزين والتولوين، كما أن التعرض الطويل والمباشر لهذه المواد يزيد من خطر الإصابة بسرطان الرئة، خصوصًا إذا اقترن بالتدخين".


حقل "الحلفاية" الأكثر تأثيراً على الأهواريين


يقول الناشط البيئي، مرتضى الجنوبي أن حقل الحلفاية من أكثر الحقول تأثيراً سلبياً على حياة الناس في الأهوار، لأنه يقع ضمن المناطق السكنية للأهواريين، ويحتوي على 6 شعلات غازية مشتعلة بشكل دائم في سماء الأهوار، كما يترك الحقل مخلّفاته النفطية في أرض الهور، وتُرمى المواد الكيميائية (الرواسب الزيتية، المخلّفات الغازية والسائلة والصلبة)،  بالقرب من بيوت الأهالي. حيث تقوم شركة بيتروجاينا  أيضا، بحسب ما أخبرنا به، بتجميع أطنان من المواد الكيميائية في حوض مساحته  20 متر مكعب، وتغطيته بنايلون وتركه، في حين يظل الباقي في أرض الهور. 


التنقيب النفطي داخل هور الحويزة
التنقيب النفطي داخل هور الحويزة

ورداً على التجاوزات التي تقوم بها شركة بتروجاينا الصينية، يجيب المستشار الحكومي، ابراهيم السوداني أن " كل الشركات النفطية العاملة في جنوب العراق بما فيها شركة بتروجاينا الصينية، وقّعت على تعهد بعدم طمر أي مادة كيميائية سواء خطيرة أو غير خطيرة، وذلك منذ بداية جولة التراخيص الأولى وتم التشديد على ذلك في جولات التراخيص الثانية والثالثة.  وتوجد حاليا 16 شركة سواء من القطاع الحكومي وهيئة البحث العلمي، أو من القطاع الأهلي، متخصصة في إدارة مخلّفات النفط، تعمل على إعادة تدوير المخلفات النفطية في الأهوار بشكل عام.


التغير المناخي يزيد من تعقيد الوضع


لا يمكن اعتبار أن النشاط النفطي في الأهوار الجنوبية، هو السبب الوحيد وراء جفاف الأهوار، بل هناك أسباب أخرى  متعلقة أساسا بتأثر العراق بالتغير المناخي.

يعرّف السوداني، الأهوار ب" الأراضي الرطبة" أي المستنقعات التي تتراوح أعماقها بين 20 سنتمتر الى متر ونصف،  بينما يصل عمق هور الحويزة إلى 3 أمتار، و"بهذه الحالة نتحدث عن المياه الضحلة، (شالووتر) أو الأهوار"، وهي تاريخياً تتقلص في موسم الجفاف وبعض أجزاء منها يتعرض للجفاف، وفي موسم الفيضان تتوسع وتُغمر بالمياه. هذه العملية ديناميكية، أى أن هذا هو النظام البيئي الطبيعي للأهوار، لكن بعد ظهور التغير المناخي، قلّت مناسيب المياه القادمة من تركيا ومن أعالي نهر دجلة والفرات، وبذات الوقت، كثرت نسب التبخّر وقل التساقط المطري، مما سبّب الزيادة في الجفاف. " وقد شهدنا قمة التطرف المناخي في العام 2017، السنة التي وصلت بها درجة حرارة الأهوار لـ 54 درجة مئوية، واعتبرت الأكثر جفافاً في تاريخ العراق" حسب السوداني.

وعن تأثر الأهوار بانخفاض كمية الأمطار، يُبيّن المستشار الحكومي أن ما أثّر على الأراضي الرطبة، هو أن "الخط المطري العراقي انخفض مع نهاية التسعينات، إلى ما دون 1000 ملم مكعب في السنة، كان هذا الخط يبدأ من شمال مدينة ديالى مروراً بجنوب صلاح الدين، لكن بسبب التغيرات المناخية زحف إلى نصف كركوك، بالتالي أكثر من 50 بالمئة من مناطق غرب العراق التي تعتمد على الزراعة الديمية أي السقاية بالمطر كالموصل والجزيرة، انخفضت كمية الأمطار فيها إلى أقل من 200 ملم بالسنة، كما أن الكميات الجديدة لا تكفي لسقاية الأعشاب، فجف الكثير منها، وتحوّل إلى بؤر للعواصف الغبارية".

ونتيجة لذلك، غيّرت الطيور المهاجرة طريقها. في هذا الصدد، يٌذكّر السوداني بأن هور الحويزة عُرف منذ آلاف السنين، بأنه منطقة تفريخ بيض الطيور المهاجرة من الشمال البارد إلى الجنوب الدافئ،  التي تمر به وتسوّي أعشاشها وتضع بيوضها داخل قصب البردي والنباتات المائية، ممضية فترة في المنطقة الرطبة تتغذى وترتاح، قبل أن تواصل مسيرتها باتجاه أفريقيا. لكن العراق خسر هذه الطيور، نتيجة انحراف خطها وانتقالها إلى الجانب الإيراني من هور الحويزة.

تأثرت الثروة السمكية العراقية كذلك بالتغير المناخي، حسب الخبير البيئي، " فمع نهاية الثمانينات، خسر العراق تقريباً 90 بالمئة من أسماكه المحلية، بسبب تملّح المياه وارتفاع درجات الحرارة، لأن ملوحة مياه الأهوار تعتمد على كمية المياه التي تصلها من أعالي دجلة والفرات، خاصة مناطق البصرة والعمارة والناصرية، وتخضع لظاهرة المد والجزر. ومع انخفاض مناسيب مياه النهرين، بدأ يصعد اللسان الملحي للمياه، وتزداد ملوحته إلى الدرجة التي تعجز فيها الأسماك عن الحياة داخلها". ويضيف " توجد أنواع من السمك العراقي اختفت تماماً من هور الحويزة، مثل البني والقطان و الحمري. في المقابل، هناك أسماك جديدة وصلت إلى مياه الهور منها "الكارب" الذي أدخلته وزارة الزراعة عام 1974 لدعم الإنتاج الزراعي، و"البلطي" الذي يستزرع في سوريا ووجد طريقه للنهر. وقد سيطر هذان النوعان من الأسماك على مياه الهور لأنهما أكثر شراسة ومقاومة للملوحة، إضافة إلى سمك الجريّ الآسيوي المفترس المقاوم لملوحة المياه، الذي يأكل صغار الأسماك ويتحمل الظروف القاسية، و"الخشني" الذي يتغذى على الطحالب الملتصقة بالطين.


جزء من هور الحويزة اليوم
جزء من هور الحويزة اليوم

قانون غير مفعّل


وضع العراق مجموعة من القوانين المتعلقة بحماية البيئة، في مقدمتها قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 الصادر عام 2009، الذي تنص المادة 9 منه على " إلزام الجهات التي ينتج عن نشاطها تلوث بيئي، أن توفر وسائل معالجة التلوث باستخدام التقنيات النظيفة بيئياً، وتوفير أجهزة قياس ومراقبة التلوث"، كما أن المادة 33 منه تخوّل لوزير البيئة " إنذار أي منشأة أو معمل أو جهة أو مصدر ملوث للبيئة، لإزالة العامل المؤثر خلال 10 أيام من تاريخ التبليغ والإنذار، وفي حال عدم الامتثال، فيحق للوزير إيقاف العمل أو الغلق المؤقت مدة لا تزيد عن 30 يوما قابلة للتمديد حتى إزالة المخالفة".

يقول المحامي علي الجبوري، المختص في قضايا البيئة، أن " قانون حماية وتحسين البيئة غير مفعّل ولا يطبق على أرض الواقع، وحتى في حال خالفت الشركات الصناعية مواده، لا يستطيع المواطن محاسبتها، لأن القانون أرجع سلطة اتخاذ وتقييم الضرر للوزير وليس للمواطن، ولم نشهد إلى حد الآن أي وزير أو وزارة من بينها وزارة البيئة، حركت أية دعوى قضائية ضد أي منشأة صناعية حكومية أو أجنبية يضر عملها بالبيئة".

أغفل القانون كذلك تعويض السكان المتضررين من عمل الشركات الصناعية، حيث لم يحدد، حسب الحبوري، مبالغ مالية معينة كتعويض للسكان الذين يتضررون صحياً واقتصادياً نتيجة  نشاط حقول النفط القريبة من منازلهم، لذلك لا يتقدم المواطن عادة بأية شكوى. وحتى وإن قام بذلك، فإن الشكاوى غالباً ما لا تُقبل، لأنه في المحاكم البدائية، إذا لم ينص القانون صراحة على تعويض مالي واضح، يعود القرار إلى القاضي الذي يطالب بإثبات الضرر بشكل مباشر، ما يجعل الدعاوي أكثر تعقيداً وغير مجدية.

كذلك وبموجب القانون العراقي، لا يحق لأي جهة ناشطة أو قانونية، رفع دعوى قضائية ضد أي شركة صناعية يلوّث نشاطها البيئة، إلا إذا امتلكت الصفة، " لذلك لا يمكننا كمحامين رفع مثل هذا الدعاوى، والجهة الوحيدة التي تستطيع إقامة الدعوى دون الحاجة إلى الصفة هو الإدعاء العام لأنه ممثل عن المجتمع ككل"، يُبيّن المحامي، مضيفا " لابد من القيام بتظاهرات وتحركات شعبية للضغط على  الإدعاء العام من أجل تحريك الدعاوي ضد الشركات الصناعية التي يثبت أن نشاطها يضر بالبيئة". 

ويوضح الجبوري أيضا، أن تطوير حقل الحويزة النفطي يتعارض مع اتفاقية  «رامسر» للأراضي الرطبة، التي وقع عليها العراق عام 2007،  وجرى تسجيل هور الحويزة ضمنها من أجل الحفاظ عليه والاستمرار بتغذيته بالمياه. بالتالي، فإن تحويل الهور إلى حقل نفطي يتعارض مع نص الاتفاقية التي تهدف إلى الاستعمال الحكيم لجميع الأراضي الرطبة من خلال الإجراءات المحلية والوطنية والتعاون الدولي. وتؤكّد الإتفاقية أن الأراضي الرطبة لها فوائدها التي لا تحصى ومنها توفير إمدادات المياه العذبة والمواد الغذائية والتنوع البيولوجي والسيطرة على الفيضانات وتغذية المياه الجوفية والتخفيف من آثار التغير المناخي. 

ويختم المحامي علي الجبوري حديثه بالقول، إن تجفيف أجزاء من هور الحويزة لأغراض نفطية يعد انتهاكاً لاتفاقية التراث العالمي (اليونيسكو) التي أدرجت أهوار العراق بما فيها هور الحويزة على لائحة التراث العالمي عام 2016.

تواصلت معدّات التحقيق مع شركة PetroChina  عن طريق  ايميل حقل الحلفاية، للحصول على معلومات بشأن الاتهامات الموجهة من قبل السكان والناشطين بالتسبب في التلوث والجفاف في هور الحويزةــ، ولكن لم يرد أي جواب منها لغاية نشر هذا التحقيق.

حاولت معدات التحقيق أيضا التواصل مع جيوجيد الصينية لكن لم يكن هناك ايميل رسمي على موقع الشركة وتعذّر التواصل معها بطرق أخرى.

من جهته، وجّه النائب جاسم عطوان الموسوي، رئيس لجنة العمل والمجتمع المدني النيابية، بتاريخ 21-4-2025  خطابًا إلى شركة نفط ميسان، طالبها فيه بتوضيح "طبيعة الأعمال الجارية داخل وفي محيط هور الحويزة"، وكيف تم السماح "بدخول آليات الاستكشاف" إلى المنطقة المحمية بموجب اتفاقية رامسر، والمسجلة كممتلك تراث عالمي لدى منظمة اليونسكو منذ عام 2016. ولكنه لم يتحصل على رد إلى حد نشر هذا التحقيق.

في المقابل، جاء في مراسلة سابقة كان تقدم بها النائب الموسوي إلى محافظة ميسان بتاريخ 16 -4-2025 أن وزراة البيئة خاطبت شركة نفط ميسان بشأن وجود حقل الحويزة، الذي تم تكليف شركة جيوجيد الصينية بتطويره، ضمن "ممتلك مُصنّف ضمن التراث العالمي وهو ما يتعارض مع التزامات العراق الدولية" وأنه تم عقد اجتماع بين الوزارة والمعنيين بالحقل بتاريخ 24-12-2024 لغرض تزويد الوزارة بكافة المعلومات والخرائط الخاصة بمساحة الحقل وتوزيع المنشآت فيه، إلا أن الإجابة لم ترد إلى حدود تاريخ آخر كتاب ورد من وزارة البيئة في 2-2-2025 على محافظة ميسان.    



تم انتاج هذا المقال ضمن مشروع أصوات نساء بلا حدود العراق، مبادرة من منظمة المساعدات الإنسانية والصحافة (AHJ)وبدعم من وزارة اوروبا والشؤون الخارجية.جميع حقوق النشر محفوظة لمنظمة AHJ لا يجوز استخدام هذا المحتوى أو إعادة نشره دون إذن خطي مسبق من المنظمة.

Comments


Follow Us !

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter

Thanks for submitting!

فتيات ضحايا لهيمنة العادات بمستقبل مجهول.png
bottom of page