حين جفَّ الماء… نساء المعدان في ديالى بين النزوح وضياع مهنة إنتاج القيمر
- مكانتي
- 19 مايو
- 10 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: قبل 5 أيام

تحقيق تمارة عماد، استبرق الزبيدي وفاطمة عليوي
في قرية الحكيم، إحدى قرى محافظة ديالى التي تعاني من التغيرات المناخية والإهمال، تقاوم النساء بصمت انهيار مهنة تقليدية شكّلت لعقود شريان الحياة لاقتصاد القرى: صناعة "القيمر "ومشتقات الحليب.
علية جبارة (57 عاماً)، تمثل نموذجاً لمعاناة النساء العاملات في إنتاج القيمر وسط تحديات متزايدة. في الثانية بعد منتصف الليل، تستيقظ فاطمة (20 عاماً) لتعد صينية صغيرة من القيمر بالكاد تزن كيلوغراماً واحداً. تقف والدتها، علية، وهي تنظر إليها بحسرة، مستذكرة الأيام التي كانت تُنتج فيها يومياً خمسة أو ستة كيلوغرامات من القيمر، في قرية الحكيم (المعروفة محلياً بالمعدان)، ناحية العبّارة في محافظة ديالى – حين كانت الجواميس كثيرة والماء وفير. اليوم، لم يتبقَّ لعلية سوى جاموستين من محموع 8 جواميس، وتقول أن أولادها يلحّون عليها حتى تبيع ما تبقى، بعد أن بات بيع الجبن والقيمر بالكاد يغطي التكاليف: "ما بقى ربح، كله رايح خسارة".

قصة علية ليست استثناءً، بل تمثل نموذجاً لمهنة تقليدية توشك على الانقراض في قلب قرى ديالى، حيث شكّلت النساء لعقود العمود الفقري لاقتصاد محلي يعتمد على تربية الجاموس وإنتاج مشتقاته. هذا التحقيق يتتبع كيف أطاحت التغيرات المناخية، وشح المياه والأعلاف، والإهمال الحكومي، بمنظومة متكاملة من سبل العيش، دافعةً بالنساء إلى الهامش، وبالأسر إلى النزوح، وبالقرى إلى الانهيار البطيء.
صناعة تحتضر
على امتداد 621 دونماً، كانت قرية الحكيم – أو "المعدان" كما تُعرف محلياً – تُعد عاصمة إنتاج القيمر في ديالى، حيث شكّلت تربية الجاموس وإنتاج الألبان العمود الفقري لحياة نحو 1500 إلى 2500 نسمة، بحسب تقديرات محلية.

يقول سمير إبراهيم، أحد سكان القرية: "قبل سنوات فقط، كانت أكثر من 70 امرأة يمتهنّ صناعة وبيع القيمر. اليوم، لا يتجاوز عددهن العشرة، ومن بقي منهن يعملن فقط لتلبية احتياجاتهن الأساسية". السبب وراء هذا التراجع الحاد، كما يوضح سمير، يعود إلى نفوق أعداد كبيرة من الجواميس بسبب الجفاف وقلة العلف، فيما اضطر كثير من الأهالي لبيع ما تبقى منها لتأمين الطعام للبقية. التدهور لم يقتصر على الكمية فقط، بل طال الجودة أيضاً. تقول أم علي، وهي أربعينية امتهنت صناعة القيمر منذ ثلاثة عقود: "حليب الجاموس صار أضعف، نسبة الدسم انخفضت، وهذا ينعكس على الطعم والقوام... القيمر ما عاد مثل قبل".
تعتمد صناعة القيمر بشكل مباشر على نسبة دهون مرتفعة في حليب الجاموس، لذلك ،فإن تدهور نوعية الأعلاف وشحها يؤدي بالضرورة إلى انخفاض الدسم، وبالتالي تراجع جودة وكمية القيمر المنتج.

وتشير أم عبد إلى أن "العديد من بائعات القيمر تركن المهنة، ومنهن رفيقتي... وذلك بسبب الخسائر المتتالية وقلة الربح". وتعزو أسباب تدهور قطاع تربية الجاموس بشكل رئيسي إلى عاملين أساسيين: "أزمة الجفاف التي بدأت عام 2019 وبلغت ذروتها في 2020" نتيجة قلة التساقطات وبناء سدود في دول المنبع (خاصة تركيا وإيران) مما خفض في كميات المياه الواردة إلى العراق، و"غلاء أسعار الأعلاف، وهو ما أثقل كاهل مربّي الجواميس". وتضيف عاملاً آخر فاقم الوضع، قائلة:
عدا التغير المناخي، فإن الحمى النزفية أطاحت بعدد منها أيضًا. أنا شخصيًا فقدت واحدة من جواميسي، لكن تمّت السيطرة على الوباء بتدخل سريع من البياطرة.
ويشار إلى أن الحمى النزفية التي تنتقل بلدغات القراد أو بالاحتكاك بالحيوانات المصابة، وعلى الرغم من أن أعراضها قد لا تكون دائماً شديدة على الماشية مقارنة بالبشر، إلا أنها تمثل تهديداً إضافياً للقطعان، خاصة تلك التي قد تعاني أصلاً من ضعف المناعة بسبب سوء التغذية وشح الموارد، كما أنها تسببت بخسائر اقتصادية وقيود على المربين في مناطق تفشيها."
تستذكر أم عبد، بائعة قيمر في الخمسين من عمرها وأم لاثني عشر ابناً وابنة تعيلهم جميعاً، بحسرة "أيام الخير" حين "كانت الجواميس تسرح في المراعي، وتأكل من العلف الذي ينبت طبيعيًا من الأرض، وتُبرّد أجسامها في المستنقعات... كنّا نراها بصحة جيدة ووزن وفير، مما ساهم في إنتاج كميات وفيرة من الحليب الدسم". أما اليوم، فتصف الواقع المرير:
الوضع اختلف تمامًا... إذا نظرتِ إلى الجواميس، ستجدينها هزيلة، وكثير منها يعاني من أمراض معدية وطفيلية قد تكون قاتلة، نتيجة قلة الماء والغذاء.
وتوضح أن الأعلاف الحالية التي يعتمدن عليها هي "النخالة أو الطحين... بالإضافة إلى "الجت"، والبرسيم، والتبن، والقاروضة"، بعد أن توقفن عن استخدام حبوب القطن منذ زمن. وتربط أم عبد جودة الإنتاج المتدهورة بجودة العلف المتاح، مؤكدة أن الصناعة "أصبحت مكلفة بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف"، حيث يصل سعر "كونية" (كيس) الطحين وحده إلى ما بين 17 و 25 ألف دينار.
ولا يمكن فصل هذا الارتفاع في أسعار الأعلاف عن آثار التغير المناخي، فالجفاف وشح المياه، اللذان ضربا المنطقة، أديا بشكل مباشر إلى تدهور المراعي الطبيعية التي كانت مصدراً للغذاء، وإلى انخفاض حاد في الإنتاج المحلي لمحاصيل العلف كالبرسيم والجت بسبب قلة المساحات المزروعة. هذا الانخفاض الحاد في المعروض المحلي من العلف، مع استمرار الطلب عليه، هو ما دفع الأسعار إلى الارتفاع بشكل كبير، وأجبر المربين على الاعتماد على شراء أعلاف بديلة كالنخالة والطحين أو الأعلاف المركزة (إن وجدت)، والتي تخضع أسعارها بدورها لتقلبات السوق وتكاليف النقل، خاصة في ظل غياب الدعم الحكومي الذي كان يخفف من هذه الأعباء.".
هذا الوضع انعكس بشكل مباشر على إنتاج أم عبد، حيث تقول: كنت أُنتج من 8 إلى 10 كيلوغرامات من القيمر يوميا، أما اليوم فلا يتجاوز الإنتاج كيلوغرامين أو ثلاثة". وبسبب ضعف إنتاج جواميسها المتبقية، تضطر هذه الأخيرة لشراء الحليب من أقاربها الذين لا يزالون يربون الجاموس، مثل ابنتها وزوجة أخيها وأخ زوجها، لمواصلة عملها.
ورغم كل هذه التحديات والخسائر، لا تفكر أم عبد بترك المهنة التي تمثل مصدر دخلها الوحيد، وتتساءل: "إذا تركتها، فكيف أعيش؟ لا أملك راتبًا ولا سيارة ولا مصدر دخل آخر".
الجفاف يهدد حياة الجاموس

لطالما شكّل نهر خريسان – الفرع الصغير المتشعب من نهر ديالى – شريان الحياة لقرية الحكيم وجواميسها. لكن هذا الشريان الهش بات أول الضحايا مع كل انخفاض في منسوب نهر ديالى، المتأثر بدوره بسياسات الإطلاقات المائية من سد حمرين الموجود على هذا النهر والتي تعتمدها وزارة الموارد المائية لمواجهة الشح المائي، بالإضافة إلى التغيرات المناخية. في تقريرها السنوي لعام 2024، أشارت مديرية زراعة ديالى إلى "محدودية الموارد المائية" كأحد أبرز التحديات التي تواجه المحافظة، مبررة بذلك قرارات تقليص الخطة الزراعية أي المساحات المسموح بزراعتها وفرض قيود على الحصص المائية. يصف مختار القرية، أبو حسين، التدهور الحاصل في المنطقة نتيجة الشح المائي قائلا: "منذ عام 2019، تراجعت نسبة وصول المياه الكافية للجاموس من نهر خريسان من 100% إلى 10% فقط".
ومع جفاف المستنقع الطبيعي الذي كانت تستخدمه الحيوانات للغطس، لجأ الأهالي إلى حلول مؤقتة، مثل حفر البرك الاصطناعية أو رش الجاموس بالماء – وهو لا يكفي لهذا الحيوان الذي يحتاج للغمر الكامل من أجل تبريد جسده وتفادي الأمراض. ويضيف المختار أن بعض الأهالي اضطروا لتحويل مياه من "نهر الخالص عن طريق البزل"، واصفًا إياها بأنها "مياه ملوثة ومليئة بالمخلفات... لكنها آخر أمل قبل موت الجواميس".
يقصد بالبزل هنا قنوات الصرف الزراعي التي تجمع المياه المالحة والمستخدمة من الحقول، وهي مياه رديئة النوعية تعكس حجم اليأس الذي وصل إليه الأهالي. أما نهر الخالص، فهو مشروع ري رئيسي يتفرع من الضفة اليسرى لنهر ديالى شمال غرب بعقوبة، وقد تم سحب المياه الملوثة من شبكة الصرف التابعة له في محاولة لإيصال أي مصدر مياه للقرية."
غلاء الأعلاف... "نبيع ثمانية جواميس لنُطعم اثنتين"
في ظل شح المياه، تواجه قرية الحكيم أزمة موازية لا تقلّ وطأة: أزمة الأعلاف. الحاج أبو حسيب، أحد وجهاء القرية، يلخّص الواقع بمرارة: "المربي اللي عنده 10 جواميس يضطر أن يبيع 8 منها حتى يشتري علفا للاثنين الباقيات". هذا الخيار القاسي لا يأتي من فراغ، بل نتيجة ارتفاع غير مسبوق في أسعار الأعلاف.

بحسب المختار أبو حسين، يتراوح سعر طن العلف اليوم بين 630 ألف و850 ألف دينار، مقارنة بـ50 ديناراً فقط للطن في زمن الدعم الحكومي السابق أثناء فترة حكم صدام حسين. المعادلة أصبحت مستحيلة: الأعلاف باهظة، والأسعار النهائية للجبن والقيمر لا يمكن رفعها بما يكفي لتغطية التكاليف، ما يضع المربين في مأزق اقتصادي حاد. ويترواح سعر كيلو القيمر حاليا ما بين 16 ألف دينار عراقي و20 ألف، أما الجبن فيترواح سعره ما بين 3000 و4000 دينار.
لا تقتصر أزمة الأعلاف على ارتفاع أسعار المواد الخام كالنخالة والطحين فقط، بل تمتد لتشمل انهياراً شبه تام في قدرة الإنتاج المحلي للأعلاف المصنعة، مما يزيد من تعقيد المشهد، فمن بين 27 معملاً مسجلاً لإنتاج الأعلاف في محافظة ديالى، لا يعمل منها سوى واحد فقط، بطاقة إنتاجية محدودة (600 طن)، وفقاً لتقرير مديرية الزراعة لعام 2024.
القطيع يتلاشى... خسارة 75% من "رأس المال الحي"

النتيجة المباشرة لأزمات المياه والأعلاف كانت انهياراً كبيراً في أعداد "رأس المال الحي" للقرية. وفقاً لتقديرات مختار قرية الحكيم، أبو حسين، فإن نحو 75% من الجواميس قد فُقدت منذ عام 2020.

تؤكد الأرقام الرسمية هذا التدهور، ففي مركز بعقوبة وحده، انخفض عدد الجواميس من 4325 رأساً في عام 2019 إلى 1207 فقط في عام 2024، بحسب مديرية زراعة ديالى. وعلى مستوى
المحافظة، تُشير الأرقام الرسمية لعام 2024 إلى وجود قرابة 17 ألف جاموسة فقط.

وفي محاولة لتوثيق حجم التراجع بالأرقام الرسمية، أقرّ قسم الثروة الحيوانية بمديرية زراعة ديالى، في رد مكتوب على استفسارات معدات التحقيق، بوجود "تراجع ملحوظ في عدد المواشي والجاموس خلال السنوات الأخيرة" في المحافظة.
إلا أن الحصول على بيانات تفصيلية أو مقارنات دقيقة على المستوى الوطني أو حتى المحلي لم يكن ممكنا من المصادر الرسمية ذاتها. فقد أفاد المصدر بعدم توفر إحصائيات لدى المديرية تبين حجم الثروة الحيوانية في ديالى مقارنة بإجمالي العراق، وكذلك عدم توفر بيانات دقيقة لأعداد الثروة الحيوانية في العراق قبل وبعد أزمة الجفاف التي بدأت عام 2019، مشيراً إلى أن الأعداد المتوفرة لديهم تقتصر على تلك المسجلة ضمن نطاق عمل الشعب الزراعية التابعة للمديرية (والتي وردت في جداول التقارير السنوية التي تم الاستشهاد بها سابقاً في هذا التحقيق).
وعند السؤال تحديداً عن قياس تأثير التغير المناخي والجفاف على أعداد الجاموس وإنتاج الألبان في قرية الحكيم (المعدان)، وعن تأثر أسعار اللحوم، أو عن بيانات المساحات الزراعية قبل وبعد الأزمة، أشار المصدر الرسمي إلى أن معرفة ذلك تتطلب "إجراء استبيان محلي في القرية"، وأن المديرية "لا تتوفر لديها إحصائيات عن المساحة الزراعية" بالمقارنة المطلوبة. هذا الغياب للبيانات الرسمية التفصيلية أو عدم إتاحتها يعكس صعوبة تقييم حجم الأزمة بشكل دقيق من المصادر الحكومية المحلية، ويسلط الضوء على فجوة محتملة في آليات الرصد والمتابعة لتداعيات الأزمة على مستوى القرى والمجتمعات الأكثر تضرراً.
من جهتها، تؤكد المهندسة فرح عبد الله كاظم، مسؤولة شعبة التغيرات المناخية في مديرية بيئة ديالى، أن التغير المناخي "أثّر بشكل ملحوظ على انخفاض المساحات الخضراء في المحافظة مما أدى إلى تراجع أعداد الجواميس والمواشي". وتنقل عن مربين التقتهم في جولاتها الميدانية كيف أن من كان يملك 300 رأسا من الجاموس "بات اليوم لا يملك أكثر من 25 أو حتى 10 رؤوس، وهذا لا يكفي كمصدر عيش"، مشيرة إلى أن هذا الانخفاض "ساهم في تراجع إنتاج الحليب ومشتقاته، وهو ما أدى إلى فقدان عدد من النساء لمهنتهن".
لكن الخسارة لا تقتصر على نقص أعداد الجواميس، بل تمتد إلى جودة القطيع المتبقي. تقر مديرية الزراعة في تقريرها لعام 2024 بأن ما تبقى من القطعان يعاني من "تردي الصحة العامة بسبب سوء التغذية"، حيث تعتمد بشكل أساسي على "الرعي من مخلفات الحصاد"، كما تشكو من "تدني نسب الخصوبة وقلة الولادات"، ما يعني أن دورة التكاثر الطبيعية للقطيع مهددة بالتوقف.
يُبيّن الخبير البيئي عدي الربيعي أن "قلة المراعي، بالإضافة إلى "ارتفاع درجات الحرارة"، تمثل عوامل مؤثرة جداً على الجاموس نظراً لطبيعته الفيزيولوجية وحاجته الدائمة للمياه لتبريد جسده بسبب جلده السميك وشعره الكثيف. ويضيف أن "جفاف المستنقعات والأهوار التي تعتمد عليها الجواميس أثّر بشكل كبير على صحتها، وتسبب في نفوق أعداد كبيرة منها، وتراجع في الولادات"، وأن الحلول البديلة مثل رش الماء "لا تُغني عن حاجتها الأساسية للمياه الغزيرة والمتكررة يوميًا".
الهجرة المناخية، شر لابد منه

أمام هذا الواقع الخانق، وجدت كثير من العائلات نفسها مجبرة على اتخاذ قرارات موجعة. في حين تقاوم الحاجة علية جبارة ضغوط أبنائها لبيع آخر ما تبقى من جواميسها، متشبثة بمهنتها القديمة، لم تستطع عائلات أخرى الصمود، كما يؤكد ذلك المختار أبو حسين. في هذا الصدد، يقول: "سبعة إلى ثمان عوائل هجرت القرية خلال العامين الماضيين، بحثاً عن فرصة للعيش في مكان آخر".
لكن الأشد مرارة هو الثمن الذي دفعه شباب القرية. حسب المختار، فإن ستة شبّان فقدوا حياتهم في 2019 أثناء محاولاتهم العثور على مصادر علف رخيصة، كالقصب والحشائش، في مناطق المبازل الخطرة، المليئة بالأعشاب الطويلة والقصب
"خمسة قُتلوا على أيدي مجهولين، والسادس خُطف ولا يُعرف مصيره حتى الآن". يحذر هذا الأخير، من أن استمرار هذا الانهيار، في ظل غياب الدعم والبدائل، قد يدفع بالمزيد من الشباب نحو مسارات مظلمة مثل الجريمة والانحراف، أو الهجرة الخطرة، "فالأزمة هنا لم تدمّر المهنة فقط، بل بدأت تُهدد النسيج الاجتماعي بأكمله".
يقدم المسؤولون روايات متضاربة فيما يخص الهجرة المناخية، فبينما يؤكد صلاح مهدي، مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في ديالى، أنه لم يتم رصد أية حالة نزوح بيئي في المحافظة حتى الآن، وهذا ما أكدته لنا أيضا دائرة الهجرة"، تقدم المهندسة فرح كاظم من مديرية البيئة وجهة نظر مختلفة بناءً على مشاهداتها الميدانية، فتقول: "في رصدنا الميداني، التقينا ببعض المزارعين الذين أكدوا هجرتهم من قرية إلى أخرى بحثًا عن الموارد بعد انعدامها في مناطقهم الأصلية، لكن لا توجد إحصائيات موثقة لدى دائرة الهجرة بهذا الشأن، لذلك لا تتوفر أرقام دقيقة عن الهجرة المناخية في المحافظة". هذا التباين يسلط الضوء على فجوة محتملة في آليات الرصد الرسمي للهجرة المرتبطة بالمناخ.
إخفاقات متراكمة... أين الدولة ؟
تضع هذه المأساة سؤالاً جوهرياً على الطاولة: أين الدولة من كل ما يحدث في قرية الحكيم؟ يجيب الحاج أبو حسيب، أحد وجهاء القرية، بصراحة موجعة: "الدولة كانت تدعم الثروة الحيوانية سابقاً، لكننا منذ أكثر من 20 سنة لم نحصل على أي دعم، باستثناء فترة حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي للأعوام (2006-2014)، حين قُدمت الأعلاف بأسعار مدعومة (أي 200 ألف دينار للطن في 2012)". ويضيف: "قلة الدعم هي السبب الرئيسي في انخفاض عدد الحيوانات إلى الربع تقريباً". والمفارقة هي أن تقرير مديرية زراعة ديالى لعام 2024 لا ينفي هذه الحقيقة، بل يقر بها بشكل صريح، حيث يشير إلى "قلة الدعم الحكومي وعدم توفر الحماية اللازمة لمشاريع التربية الحيوانية"، ويعترف بأن هذا أدى إلى "عزوف المربين عن العمل وتعرضهم لخسائر مادية كبيرة جداً". ورغم ذلك، فإن الحلول المطروحة في نفس الوثيقة تبدو محدودة وهشة مثل "تقديم الدعم السريع للمشاريع المتضررة" دون أن يتم تحديد تاريخ لذلك، أو إعلان المديرية عن خطة توسع زراعي "طموحة" لمساحة 315 ألف دونم لموسم 2024-2025، يبدو تحقيقها بعيداً عن الواقع، في ظل أزمة مياه حادة تعترف بها المديرية نفسها.
من جانبه، يشير محمد المندلاوي، مسؤول إعلام مديرية زراعة ديالى، إلى خطة بيئية (لم يحدد تفاصيلها الدقيقة لمعدات التحقيق) كانت المديرية قد اقترحتها لمعالجة بعض التحديات المتعلقة بالقطاع الزراعي وتأثيرات المناخ، لكنها "لم تُنفذ حتى الآن" والسبب المباشر هو "عدم تخصيص ميزانية كافية لذلك". ويؤكد استعداد المديرية للتنفيذ "فورًا" في حال توفر التمويل اللازم.
ورغم أن تفاصيل خطة مديرية زراعة ديالى المحددة وميزانيتها المطلوبة غير مفصلة في الوثائق التي تم الاطلاع عليها، إلا أن الوثيقة الأوسع لـ "الاستراتيجية الوطنية لحماية وتحسين البيئة في العراق 2024-2030"، التي أعدتها وزارة البيئة بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) ، تلقي الضوء على حجم التحديات التمويلية على المستوى الوطني.
تهدف هذه الاستراتيجية الوطنية الشاملة إلى معالجة مجموعة واسعة من المشاكل البيئية التي يعاني منها العراق، مثل إدارة الموارد المائية ومواجهة شح المياه، مكافحة التصحر وتدهور الأراضي، تعزيز صمود القطاع الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي، ودعم التكيف مع التغير المناخي. وتتضمن الاستراتيجية خطط عمل تفصيلية لتحقيق غايات طموحة في هذه القطاعات، لكنها تقدر الحاجة لمئات الملايين، وربما تتجاوز المليارات، من الدولارات لتمويل هذه البرامج والمشاريع على المستوى الوطني بحلول عام 2030 (على سبيل المثال، تقدر ميزانية تحقيق أهداف قطاع الزراعة والأمن الغذائي وحده بعشرات الملايين من الدولارات).
وفيما يتعلق بالدعم الحكومي الموجه للنساء الريفيات المتضررات، تشير نغم عزيز، مسؤولة قسم شؤون المرأة في محافظة ديالى، إلى وجود "أكثر من منظمة محلية نفذت مبادرات تتعلق بتمكين المرأة الريفية خلال الأشهر الستة الأخيرة"، مثل مبادرة توزيع خلايا نحل من قبل منظمة "أجيال" في قضائي بعقوبة والمقدادية. لكنها تقر بأن "هذه المبادرات لا تزال محدودة، ولا ترتقي إلى المستوى المطلوب مقارنة بأزمة التغير المناخي وتأثيرها الكبير على النساء الريفيات في ديالى"، معربة عن أملها في وضع "برامج حكومية ودولية تقدم الدعم الحقيقي لهؤلاء النسوة".
بين الإلتزامات الدولية والواقع المحلي، الفجوة تتسع
في الوقت الذي تعاني فيه قرية الحكيم (المعدان) من شحّ المياه، وانهيار الثروة الحيوانية، وتفكك سبل العيش، تتزايد التساؤلات حول التناقض الصارخ بين الواقع القاسي والالتزامات البيئية التي أعلنها العراق على المستوى الدولي، خاصة بعد مصادقته على اتفاقية باريس للمناخ في يناير 2021، والتزامه بموجب وثيقة مساهماته المحددة وطنياً (NDCs) بخفض الانبعاثات والتكيف مع آثار التغير المناخي. وتشمل هذه الوثيقة أولويات واضحة تعهّد بالعمل على تحقيقها، مثل حسن إدارة الموارد المائية ومكافحة التصحر ودعم القطاع الزراعي. ولكن المأساة التي تتكشف فصولها في قرية "عاصمة القيمر" تُظهر بوضوح أن هذه الالتزامات لم تُترجم إلى إجراءات ملموسة على الأرض، خصوصًا في المجتمعات الهشة، في الأثناء، وبينما تظل الخطط طموحة على الورق، تبقى قرية الحكيم شاهداً حياً على غياب الاستراتيجيات، وتراكم الإخفاقات.
تم انتاج هذا المقال ضمن مشروع أصوات نساء بلا حدود العراق، مبادرة من منظمة المساعدات الإنسانية والصحافة (AHJ)وبدعم من وزارة اوروبا والشؤون الخارجية.جميع حقوق النشر محفوظة لمنظمة AHJ لا يجوز استخدام هذا المحتوى أو إعادة نشره دون إذن خطي مسبق من المنظمة.
Comments