تجربة المخرجة العراقية بيان صلاح: معركة إثبات الوجود في بيئة سينمائية ذكورية
- زينة مؤيد
- 31 يوليو
- 5 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: قبل 5 أيام

" لا أريد أن أتصرف كالرجل... أحب أن أكون امرأة خلف الكاميرا"
بهذه العبارات تصف بيان صلاح، مخرجة سينمائية، ملامح هويتها في عالم يتوقع من النساء أن يكن بعيدات عن الانظار لكي يواصلن عملهن. في كواليس مواقع التصوير، وبين عدسات الكاميرات والفرق الفنية التي يغلب عليها الطابع الذكوري، لم تحاول بيان فقط صناعة الأفلام، بل كانت تخوض معركة مزدوجة: الحفاظ على كيانها كامرأة، والإصرار على أن يكون هذا الكيان مرئيًا ومحترمًا، لكونها اختارت أن تُنجز عملها كما هي : مخرجة لا تريد أن تشبه إلا نفسها.
نشأت بيان البالغة من العمر اثنين وثلاثين عاما ، في كردستان العراق، إقليم غني بالتراث والثقافة، لكنه لا يخلو من القيود المجتمعية التي تفرضها الأعراف التقليدية، خصوصًا على " النساء اللواتي يسعين إلى الخروج عن الأدوار التقليدية"، بحسب قولها. ورغم أن إقليم كردستان يُعتبر من أكثر مناطق العراق استقرارًا وانفتاحًا مع وجود حركة فنية وثقافية نشطة فيه، إلا أن حضور النساء في السينما الكردية ما زال محدودًا. وهنا وجدت بيان نفسها تخوض معركتها الشخصية في مواجهة تقاليد مجتمع محافظ.
كنت أُسأل: لماذا أخرج من المنزل في الثالثة فجرًا؟، تقول الشابة، وهي تتذكر كيف كانت تُضطر لتبرير متطلبات العمل الإبداعي، في مجتمع لا يزال ينظر للسينما كمجال ذكوري بحت. وتروي حادثة لم تفارق ذاكرتها، حين رفض رجل التحدث إليها في مقابلة صحفية لأنها امرأة، ووجّه كلامه لزميلها. " في تلك اللحظة، قررت أن أتجاوز الإهانة التي شعرت بها، وأن أُجري المقابلة عبر طرف ثالث، فقط كي لا تُغلق نافذة القصة التي كنت أعمل عليها".
ترى بيان أن كونها امرأة ومخرجة ليس ضعفًا، بل فرصة لرؤية الأشياء من زوايا ظلّت طويلًا غير مطروقة. أنوثتها، كما تصفها، ليست عبئًا مهنيًا بل إضافة إبداعية، "فالنساء يحملن لغة عاطفية مختلفة في السرد"، وهي تؤمن أن هذه اللغة تُحدث فرقًا جوهريًا في كيفية تمثيل الشخصيات النسائية، إذ تمنحها عمقًا وثراء يندر وجودهما في أعمال يهيمن عليها السرد التقليدي.
تعتمد بيان في عملها على التعلم الذاتي، وتمزج بين الحس المهني العالي والقدرة على خلق بيئة تصوير داعمة للنساء. ومن بين مشاريعها البارزة، فيلم وثائقي طويل تم تطويره بدعم من المعهد البريطاني للأفلام BFI ، وفيلم روائي قيد الكتابة، يتناول قصة فتاة تكبر في حي شعبي ببغداد وتُحاول أن تتمرّد على واقع العائلة والمجتمع. هذا العمل تحديدًا يكشف عن حساسيتها الفائقة تجاه القضايا الاجتماعية التي تمس النساء في السياقات اليومية.
امرأة خلف الكاميرا
العمل خلف الكاميرا لا يتطلب فقط مهارة فنية، بل يتطلب قدرة على الصمود والمرونة والتكيّف. تقول بيان إنها كثيرًا ما تجد نفسها مضطرة لأن تتأقلم مع السياقات الذكورية المسيطرة، خصوصًا في مواقع التصوير التي تُهيمن عليها فرق عمل من الرجال. ورغم أنها اعتادت على إثبات قدراتها الفنية، فإن التحدي الحقيقي كان دائمًا في أن تكون حاضرة بصوتها وشخصيتها كامرأة. و ترى أن هذه الصعوبات خلقت لديها وعيًا أكبر بأهمية أن تفتح المجال لنساء أخريات، وأن تسهم في خلق بيئة إنتاج أكثر أمنًا واحتواءً لهن. وهي ترى أن السينما ليست مجرد عمل تقني، بل هي لغة وتعبير عن مشاعر معقدة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الاقتراب الإنساني الحقيقي من الشخصيات والقصص.
في عام 2019، انتقلت الشابة إلى لندن نحو فضاء إبداعي أكثر اتساعًا، مكّنها من أن تروي حكايات محلية بتقنيات عالمية. هذه التجربة الغنية شكّلت رؤيتها السينمائية المتفردة.
ويرى محمد الغضبان، المدير التنفيذي لمؤسسة بغداد للأفلام، أن بيان تمثل روح السينما العراقية الجديدة، قائلا: «إنها تبني طريقها الخاصة. وهي لا تتحدث كثيرا بل تدع أعمالها تتحدث نيابة عنها، وبرأيي هذه هي القوة الحقيقة."
ويصفها بأنها مخرجة "تملك حساسية عالية تجاه قصص النساء"، وتعرف كيف تمنح شخصياتها مساحة لتكون معقّدة، وغاضبة، وضعيفة في آنٍ واحد. ويضيف: " كاميرتها لا تتطفّل، أي بمعنى إنها لا تستخدم الكاميرا كما يفعل البعض بطريقة استغلالية أو فضولية تركز على الإثارة أو الانتهاك، بل توظفها في سياقات إنسانية تحترم القصص الشخصية للناس، وتُبرز كفاحهم وظروفهم من الداخل، من دون فضح أو استغلال". ويشير إلى أن بيان ليست فقط صوتًا سينمائيًا فرديًا، بل هي شريكة في بناء بيئة مؤسساتية حقيقية للسينمائيات والسينمائيين العراقيين، وذلك عبر عملها في مؤسسة بغداد للأفلام، والمشاركة في مهرجانات دولية مثل كان 2025، حيث مثّلت العراق إلى جانب عدد من المخرجين. مشاركتها هذه لم تكن رمزية، بل فاعلة، إذ عكست صورة حيوية للسينما العراقية المتنوعة والمنفتحة على العالم.
صناعة السينما ما زالت بحاجة إلى بنية تحتية
ورغم الزخم المتزايد في إنتاج الأفلام المستقلة، لا تزال السينما العراقية تعاني من غياب بنية تحتية واضحة تُتيح لهذا الفن أن يتحول إلى صناعة مستدامة. وبينما تشهد بعض المناطق مثل إقليم كردستان حضورًا جماهيريًا ملحوظًا في دعم السينما المحلية، يبدو الواقع مختلفًا في مدن أخرى، حيث لا تزال ثقافة التلقي محدودة. في هذا الصدد، يرى الدكتور زيد فاضل، مؤسس ورئيس شبكة السينما العراقية، أن الجمهور العراقي ما زال جمهورًا صعبًا، خصوصًا فيما يتعلق بالأفلام المحلية. ويقول: «الجمهور الكردي يدعم أفلامه المحلية بشكل واسع، حتى حين تكون متواضعة فنيًا، بينما في باقي مدن العراق لا يزال التفاعل محدودًا».
ويشير إلى أن النقص في الكوادر الفنية، وغياب البنية التحتية كدور عرض مستقلة وشركات توزيع محترفة، هي من أبرز العوائق أمام قيام صناعة سينمائية مستدامة في العراق. لكنه في الوقت ذاته يرى أن مؤسسات مثل بغداد للأفلام تلعب دورًا جوهريًا في دعم المواهب، وخلق بيئة إنتاج حقيقية. ويؤكد زيد أن الاستثمار في تدريب الشباب وتقديم الحوافز للمبدعين من كل أنحاء العراق، هو الخطوة الحقيقية نحو بناء صناعة سينمائية محلية ذات حضور إقليمي.
وقد شارك زيد فاضل مؤخرًا في مهرجان "كان" السينمائي ضمن وفد مؤسسة بغداد للأفلام، ويصف التجربة بأنها كانت «فرصة لفهم السوق السينمائية العالمية عن قرب، ومقابلة موزعين ومنصات مهتمة بالسينما من الشرق الأوسط، وهو ما يفتح المجال أمام الأفلام العراقية للوصول إلى جمهور أوسع». كما أكد أن حضوره كان خطوة ضرورية لبناء شبكة علاقات تدعم صُنّاع الأفلام الشباب في العراق.
قوة المنصات الرقمية
في ظل تحديات الإنتاج والتوزيع التي تواجهها السينما العراقية، تُشكّل المنصات الرقمية فرصة لصُنّاع الأفلام، ولا سيما النساء، للتعبير والوصول إلى الجمهور، حيث يرى يوسف الألوسي، رئيس التسويق و العلاقات العامة لمنصة ١٠٠١ للبث الرقمي، أن المخرجة، بيان صلاح هي نموذج للصوت السينمائي النسوي الذي يجمع بين الجذر المحلي والرؤية العالمية. ويقول: «بيان لا تمثل نفسها فقط، بل تعكس مسارًا جديدًا كاملًا لصناعة السينما العراقية»، ويؤكد أن دعم المخرجات هو خطوة أساسية لبناء صناعة شاملة. فالمواهب النسائية في العراق، «تواجه تحديات تمويلية، ومجتمعية، وأحيانًا قانونية، لكن ما تقدّمنه من سرديات ومقاربات لا يمكن أن يُعوّض». ويشير إلى أن هذا الدعم لا يكون فقط من خلال التمويل، بل عبر توفير منصات حقيقية تسمح بعرض هذه الأعمال للجمهور، وخلق حوار نقدي وفني حولها.
وهنا يُبيّن أن التعاون بين منصة "ألف وواحد" ومؤسسة بغداد للأفلام خلق نموذجًا جديدًا في دعم صُنّاع الأفلام، عبر توفير البنية التحتية والتوزيع والتدريب، بما يمنح المواهب الشابة فرصة الوصول إلى جمهور أوسع. ويرى أن مثل هذه الشراكات هي التي تؤسس لمستقبل مختلف للسينما العراقية.
ومع ازدياد عدد منصات البث الرقمية وتنوعها، بدأ الجمهور العراقي يتطور في فهمه وتمييزه للخطاب السينمائي، حيث لم يعد يقتصر على مشاهدة الأفلام كترفيه فقط، بل أصبح يبحث عن سرديات تحمل بعدًا إنسانيًا وفنيًا عميقًا، حيث يُفسّر مسلم الجبوري، صانع المحتوى السينمائي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، " أن الجمهور العراقي بات أكثر وعيًا بالخطاب البصري بعد الانفتاح على منصات البث العالمية". ويضيف: «بات المشاهد العراقي قادرًا على التمييز بين الفيلم التجاري والفيلم الذي يقدّم سردًا فنيًا وإنسانيًا».
ويرى مسلم أن هذا التحوّل في الذائقة يجب أن يقابله جهد أكبر من صناع السينما المستقلين، خاصة في ظل استمرار غياب الدعم المؤسساتي ووجود قيود رقابية. لكنه يشير إلى أن ما تقدمه شخصيات مثل بيان صلاح يعطي الأمل في أن جيلًا جديدًا من المخرجات قادر على كسر الحواجز. ويشدد على أن السينما، حين تُروى بأصوات جديدة وصادقة، يمكن أن تغيّر الواقع الثقافي والاجتماعي.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments