اليمن: حين يُجبر الجفاف الفتيات في قرى تعز على ترك مقاعد الدراسة
- آمال محمد وسعيدة عبد الغني
- قبل 3 أيام
- 4 دقيقة قراءة

"كنت أحلم أن تصبح ابنتي طبيبة، لكن قسوة الحياة حالت دون ذلك"، تقول "نفحة دبوان" (اسم مستعار)، وهي أم لخمسة فتيات، مضيفة "أجبرت ابنتي الصغرى على ترك المدرسة لتذهب لجلب الماء، وأحيانًا كنت أضربها لتطيعني، رغم أن ذلك كان يمزق قلبي".
تصف نفحة المعاناة اليومية التي تواجهها فتيات قرية "الأحطوب"، وهي منطقة جبلية نائية ضمن مديرية شرعب الرونة في محافظة تعز، في سبيل الحصول على الماء، مشيرة إلى أنهن يضطررن للسير أكثر من ساعة عبر طرق جبلية وعرة للوصول إلى بئر بعيدة، مُبيّنة أنه "في الشتاء، تجف أغلب مصادر المياه، فنُترك بلا ماء، لا للشرب ولا للتنظيف".
والمشكلة لا تكمن فقط في شح المياه بل أيضا في الطريق للحصول على الماء، حيث تؤكد نفحة أن الأهالي يعيشون في قلق دائم على بناتهم أثناء تسلقهن المنحدرات الوعرة، موضحة "نراقبهن بقلق وقلوبنا معلقة، ونخشى وقوع أي حادث".
وتضيف أن التعليم في القرية بات حلمًا بعيد المنال: "نادراً ما تُكمّل الفتيات الصف السادس، ومعظمهن يتركن المدرسة بسبب أعباء جلب الماء". وتوضح أن ابنتها الكبرى تركت الدراسة في الصف الثالث، والثانية توقفت في بداية المرحلة الإعدادية.
وتعتمد أكثر من 30 أسرة في القرية على بئر واحدة تبعد مسافة طويلة قد تستغرق ما بين ساعة إلى ساعتين سيرا على الأقدام، ما يجعل جلب الماء مسؤولية يومية تقع غالبًا على عاتق الفتيات.
الماء أولًا، ثم التعليم
في ظل تصاعد الأزمات الإنسانية التي تعصف باليمن، يتصدر الجفاف قائمة التحديات التي تهدد حياة المواطنين، إذ لا يقتصر تأثيره على نقص المياه والغذاء فحسب، بل يمتد لينعكس بعمق على حق الفتيات في التعليم، مهددًا بتدمير مستقبل جيل بأكمله.
في قلب هذه الأزمة تقع قرية "الأحطوب" التي تتميز بتضاريسها الوعرة وانقسامها الإداري بين سلطتين متنازعتين، إحداهما تتبع الحكومة الشرعية، والأخرى تحت سيطرة جماعة أنصار الله. هذا الانقسام، إلى جانب الإهمال المزمن، حرم القرية من أبسط مقومات الحياة، إذ تعاني من بنية تحتية متهالكة وطرقات وعرة يصعب الوصول إليها.
أدى تفاقم أزمة الجفاف إلى تعميق معاناة الأهالي، لاسيما الفتيات، اللواتي يُجبرن على قطع مسافات طويلة لجلب المياه، ما يتسبب في تسرب كثير منهن من المدارس، ويهدد أحلامهن البسيطة بالضياع.
سعدية عبد المغني، إحدى فتيات قرية الأحطوب، كانت تحلم بإكمال تعليمها، لكن حلمها توقف مبكرًا في الصف الثالث الابتدائي. "كنت أذهب صباحا إلى المدرسة، لكن في داخلي كنت منشغلة بشيء آخر: كيف سأذهب بعد الظهر لجلب الماء. حاولت التوفيق بين الإثنين، لكنها كانت مهمة صعبة"، تقول وهي تستذكر كيف كانت تقطع يوميًا مسافة تتجاوز الساعة والنصف سيرًا على الأقدام إلى آبار بعيدة. وتتابع: "أحيانًا نخرج قبل الفجر، أو في منتصف الليل، ونسابق الزمن والآخرين للحصول على القليل من الماء. ونعود عند الرابعة صباحًا نحمل أوعية نصف فارغة بسبب الجفاف".
رحلة الماء لم تكن مرهقة فقط، بل محفوفة بالمخاطر، كما تروي سعدية: "كنا نصادف الثعابين والضباع، وفي بعض الليالي نفرّ من كلاب ضالة أو ظلال مجهولة في العتمة. وكان الخوف يسيطر علينا تمامًا".
اليوم، توجد سعدية خارج أسوار المدرسة. لم تتركها لقلة الشغف، بل لأن الحياة رسمت لها طريقًا آخر. "كنت أحلم أن أتعلم مثل باقي أبناء وبنات القرية، لكن الحياة وضعتني أمام خيار صعب إما أن أتعلم، أو أساعد أسرتي في جلب الماء ". وبفعل الظروف، تزوجت وهي في الخامسة عشرة، ككثير من فتيات القرية.
مسك سعيد عامر، أم لثماني فتيات، كانت شاهدة هي الأخرى على سنوات من العطش والمعاناة. تقول بحسرة: "كنت أتمنى أن يكملن تعليمهن ويتوظفن، لكن الحياة هنا قاسية جدًا، لذلك اضطررن لترك المدرسة لمساعدتي في المنزل". لم تكمل سوى بنت واحدة من بناتها المرحلة الثانوية، أما البقية فتوقفن عند الصف السادس، لأنهن منشغلات بجلب الماء، ورعي المواشي، وجمع الحطب.
مدرسة واحدة بمعدل تسرّب كبير للبنات
يصف صادق كامل، أحد أعيان المنطقة، الواقع مشيرًا إلى أن قريته، التي تضم أكثر من 1400 نسمة، لا تملك سوى مدرسة واحدة للتعليم الأساسي اسمها "مدرسة عائشة". ولكن "في الشتاء، حين تجف الآبار وتتفاقم المعاناة، تضطرّ العديد من الأسر لإخراج بناتهن من التعليم لتأمين الماء".
تنقسم قرية الأحطوب إلى عدة تجمعات سكنية صغيرة تسمى "عزل"، منها وادي السبل، الحفيرة، الحديقة، الضبري، الرحيبة، ووادي النيل، ويتراوح عدد المنازل فيها بين 12 إلى 65 منزلًا، وكلها تفتقر لأبسط مقومات البنية التحتية. ويُؤكّد صادق أن التعليم أصبح "رفاهية يصعب الحفاظ عليها".
من جهته، يؤكد أحمد عبده، مدير "مدرسة عائشة"، أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا حادًا في التحاق الفتيات بالتعليم، حيث أن عدد اللاتي يُكملن تعليمهن بعد المرحلة الإعدادية قليل جدًا، ففي المرحلة الثانوية، لا يتجاوز هذا الرقم خمس إلى سبع طالبات فقط. وبسبب هذا العدد المحدود، اضطرت إدارة المدرسة إلى نقلهن ودمجهن مع طالبات مدرسة أخرى في قرية مجاورة لمواصلة دراستهن.
أما في بقية الفصول الدراسية، فأشار إلى أن الطالبات يتغيبن بشكل متكرر، وعددهن في كل فصل لا يتجاوز عشرين طالبة.
ويُرجع ذلك إلى تفاقم أزمة المياه والواقع المعيشي المتدهور. ويفسر قائلا: "الفتيات يقضين ساعات طويلة في جلب الماء من آبار بعيدة، ما يحرمهن من الانتظام في الدراسة، وبالتالي تسرب الكثير منهن قبل إكمال المرحلة الابتدائية".
ويضيف أن المدرسة تعمل بموارد محدودة وبنية تحتية متهالكة، في حين تستمر الأسر، تحت وطأة الحاجة، في سحب بناتهن من مقاعد الدراسة للمساعدة في الأعمال اليومية.
التغير المناخي وتأثيره على دراسة الفتيات
تشير تقارير دولية إلى وجود أكثر من مليوني طفل خارج مقاعد الدراسة في اليمن، 60% منهم فتيات. وتُعد موجات الجفاف المتكررة، كما أشارت تقارير البنك الدولي، من أبرز أسباب هذا التسرب، إذ تدفع الأسر الفقيرة إلى اتخاذ قرارات قاسية، أبرزها إخراج الفتيات من التعليم لتأمين الاحتياجات الأساسية.
ويُحذّر الخبير البيئي، عبد القادر الخراز من أن التغيرات المناخية تُهدد استقرار المجتمعات الريفية قائلا: "الجفاف الحاد يؤدي إلى التصحر، ويُجبر المزارعين على هجر قراهم، فيبحثون عن مصادر دخل بديلة، مما يُفاقم هشاشة أوضاع الأسر النازحة".
من جهتها تُبيّن الناشطة الحقوقية، هبة زين أن الفتيات يتحملن العبء الأكبر، سواء داخل القرى المتأثرة بالجفاف أو في مخيمات النزوح، حيث يفتقرن لفرص التعليم، ويواجهن قيودًا اجتماعية تُقيد حركتهن وتُفاقم الفجوة التعليمية.
أما عفاف مكي، مديرة إدارة تعليم الفتاة في مكتب التربية بمحافظة تعز، فتُشير إلى أن نسبة تسرب الفتيات من التعليم في المناطق الريفية تجاوزت 90% خلال السنوات الأخيرة، بفعل النزاعات وتدهور المناخ.
وتُحذر تقارير صادرة عن صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) من ازدياد معدلات الزواج المبكر في المناطق المتأثرة بالجفاف والنزوح، مما يجعل التغير المناخي تهديدًا غير مباشر لحقوق الفتيات التعليمية والجسدية. لذلك يدعو الخبير الخراز إلى إطلاق استجابات عاجلة، تشمل إعادة تأهيل الأراضي الزراعية، وإنشاء مراكز تعليمية متنقلة، وبرامج دعم تمنع الزواج المبكر.
من جانبها، تؤكد هبة زين على أهمية دمج قضايا المناخ ضمن السياسات التعليمية والحقوقية، مشددة على أن "حماية تعليم الفتيات هو استثمار في ازدهار اليمن وإنقاذ أجياله القادمة".
"أكثر من مليوني طفل خارج مقاعد الدراسة في اليمن، 60% منهم فتيات"
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)






تعليقات