top of page

أمام تفاقم العنف الأسري في العراق: الضحايا يحلمن بالهجرة

ree

تشوهت كلمة "وطن" لدى الكثير من النساء العراقيات، فبدلا من أن تدل على الأمان والحماية، أو الانتماء، صارت دليلا على الوجع والخوف. في بيوتٍ يُفترض أن تكون مأوى، تتكرر مشاهد العنف الجسدي والنفسي والاقتصادي يومياً.


 بحسب تقارير أممية، ينتشر العنف الأسري في العراق بشكل واسع ، لكن غالبا ما يتم التكتم عليه. وعادة ما تواجه النساء اللاتي يشتكين منه إلى ضغوط عائلية او عشائرية للتنازل عن الدعوى. وتشير هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women) إلى أن أكثر من 52% من النساء العراقيات واجهن شكلاً من أشكال العنف داخل الأسرة أو المجتمع، وأن ضعف القوانين وغياب الملاجئ يزيد من هشاشة وضعهن.  أما على الصعيد المحلي، ففي عام 2024، شهدت البلاد نحو 14٬000 حالة عنف أسري، 73% من الضحايا إناث، و6% أطفال. في ظل هذا الوضع، لا يزال قانون مناهضة العنف الأسري حبيس الخلافات السياسية والدينية منذ أكثر من عشر سنوات، ليغدو الحديث عن الأمان الأسري ترفاً لغوياً، وتصبح الهجرة محاولة يائسة لاستعادة ما فقدته النساء داخل حدود الوطن من إحساس بالكرامة والأمن، خاصة في غياب الحماية القانونية والمؤسسية للمعنّفات. 




العنف كنظام حياة


 ترى الدكتورة البولندية آنا رايكوفسكا، المختصة في النظريات النسوية، أن العنف الأسري، أينما وقع، لا يتعلق بالثقافة أو بالدين أو بالتراث، بل بمن يملك السلطة، ومن يخشى فقدانها، ومن يدفع ثمن هذا الخوف، حيث  تقول عبر مقابلة خاصة: "عندما نلوم الثقافة أو الدين على العنف الأسري، نقع في فخ يجعلنا نبحث عن أعذار بدلا من أسباب، فنشير إلى ما هو ظاهر للعيان: تقليد، معتقد، قاعدة عائلية، ثم، دون تفكير عميق، نسميه السبب. ونُحوّل شيئًا هيكليًا إلى شيء أخلاقي، كما لو أن العنف نتيجة (تقاليد سيئة) قليلة، بدلا من نظام يعيش ويتنفس فينا جميعا."ومن هذا المنطلق، ترى الدكتورة آنا أنه " عندما نتساءل عمّا إذا كان العنف المنزلي نابعا من الثقافة أو الدين أو التوتر، ربما يجب أن نغيّر توجه السؤال ليصبح: من علّمنا أن بعض الأرواح مُقدّر لها أن تمتلك السلطة، وأخرى مُقدّر لها أن تتحملها؟" 

تحت هذا النظام الأبوي القائم على السيطرة.

تعيش "شهد"، مع ابنها تيم المصاب بطيف التوحد وتروي قصتها بألم وحسرة كبيرين: "تزوجت ممن أحب بعد صراع طويل مع عائلتي، لكنه بعد فترة وجيزة بدأ بضربي. وفي كل مرة كان يعتذر ويعدني بأنه لن يكرر فعلته، لكن لم يكن يمر أسبوع دون أن يعنفني من جديد". تُعاني شهد حاليا من انحراف في الأنف نتيحة الضرب، ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد. وتُتابع "في آخر مرة ضربني فيها، جاء بعد ذلك معتذرا وطلب مني أن ننتقل إلى أربيل ونبدأ حياة جديدة بعيدًا عن المشاكل. سُعدتُ جدا بالمقترح، وتركت كل شيء خلفي وذهبنا سويا، إلا أنه بعد أسبوعين فقط تركني مع ابني وحيدين، وطلقني غيابيا ليتزوج فتاة تبلغ من العمر 16 عامًا." لا تعرف شهد إلى حد الآن إلى أين ذهب، ولا كيف حصل كل هذا، لكنها تدرك أنها أصبحت وحيدة مع ابنها في ظل عدم مساندة عائلتها لها وتحلم بأن تستطيع ذات يوم التخلص من كل هذا الوضع والهجرة إلى كندا حيث تتوفر رعاية خاصة للأطفال الذين يعانون من التوحد. 

  

في سياق متصل، تؤكد أمل كباشي، المديرة التنفيذية لشبكة النساء العراقيات، أن " العراق لا يمتلك حتى اليوم دور إيواء رسمية لضحايا العنف الأسري تُدار من قبل الدولة، باستثناء بعض المحاولات المحدودة التي أطلقتها منظمات دولية بالتعاون مع المحافظات أو الحكومات المحلية. وقد تحوّلت تلك المحاولات في الغالب إلى وحدات صغيرة تابعة لدائرة ذوي الاحتياجات الخاصة، بسبب غياب قانون يسمح بفتح دور لإيواء المعنفات".وتوضح كباشي أن الإشكالية الأساسية التي واجهت هذه الدور هي عدم وجود سند قانوني واضح، إضافة إلى اعتذار وزارة العمل عن إدارتها بحجة غياب القانون وعدم توفر الموارد المالية اللازمة لتشغيلها. وتشير إلى أن بعض الدور موجودة فعلاً لكنها محدودة الصلاحيات، إذ تقع تحت إشراف مكاتب المحافظين من دون مخصّصات مالية أو كوادر مؤهلة. 

وتشير كباشي أيضًا إلى أن "محاولة تشريع قانون حماية الأسرة في عام 2015، وصل إلى مرحلة متقدمة من النقاش داخل البرلمان، لكن غياب الإرادة السياسية وعدم اعتباره أولوية من قبل الكتل، إلى جانب ضعف لجنة المرأة والنواب، حال دون ذلك. كما ساد بين بعض القوى السياسية اعتقاد بأن هذا القانون قد يُضعف السلطة الأبوية ويُهدّد البنية التقليدية للعائلة العراقية، وهو ما أدى إلى تجميد المشروع إلى حد اليوم".


"عندما نلوم الثقافة أو الدين على العنف الأسري، فنحن لا نبحث عن الأسباب، بل عن أعذار تُخفي حقيقة أبسط: من يملك السلطة، ومن يخشى فقدانها، ومن يدفع ثمن هذا الخوف."



الهروب من الوطن كوسيلة للحصول على الأمان النفسي


من ناحية أخرى، تُبيّن رايكوفسكا أن المرأة، عندما لا تجد حماية حقيقية ولا شرطة موثوقة ولا مأوى آمناً ولا قانوناً يساندها، تكون أمام خيارين: إما البقاء أو الهرب. وتضيف: "أما الخيار الثالث، وهو النضال، فلا يتحقق إلا إذا وفّر النظام نفسه الحماية ودعم الأسرة وإمكانية الحصول على مأوى وتحقيق العدالة".

تجسّد حكاية شذى (اسم مستعار) هذا المعنى بوضوح، إذ هربت من بغداد إلى تركيا، ثم إلى ألمانيا، حيث تروي رحلتها المليئة بالمخاطر قائلةً: "هربت من منزل أهلي سرا إلى تركيا بعد أن أقنعتهم بأنني ذاهبة إلى منزل صديقتي في محافظة أخرى وسأعود بعد يومين. وحال وصولي إلى تركيا، كسرت شريحة الهاتف وأغلقت الواتساب تماما، ثم اشتريت شريحة تركية وتواصلت مع أحد المهربين الذي نقلني مع مجموعة من الناس إلى اليونان، ومن هناك استلمنا مهرب آخر. وكنا تارة نمشي، وتارة توصلنا سيارات، وتارة نعبر أمام شرطة الحدود دون أن يهاجمونا إلى أن وصلت إلى ألمانيا وهناك سلّمت نفسي للشرطة وقدمت طلب لجوء."شذى تعاني من عرجٍ مستدام بسبب العنف الأسري؛ فوالدها السكير أسقطها من درج المنزل عمدا، مما تسبب بكسر في ساقها. وفي المستشفى تم تجبير الساق بطريقة خاطئة، ما أدى إلى خطأ في الالتئام وتسبب بالعرج."منذ وفاة والدتي، وأبي يمارس شتى أنواع التعذيب علينا، من الضرب إلى السب والشتم وصولًا إلى حرق الأيدي والأقدام، وهذا ما دفعني للهروب دون أن أفكر بالعواقب."ورغم إدراكها لمخاطر طريق الهجرة من اغتصابٍ ونهبٍ وقتل، اعتبرت شذى أن ما عانته في بيتها كان أسوأ من كل الاحتمالات الأخرى.

وفّرت لها ألمانيا أخيرا مأوى وحماية وفرصة لبداية جديدة، بعيدا عن يد معذّبها، لكنها لم تستطع بعدُ التخلص من أثر الألم.

وفي قراءة نفسية لهذا البعد، تؤكد الدكتورة بتول عيسى، أخصائية الطب النفسي، أن "الهجرة واحدة من أكثر التجارب الإنسانية تعقيدًا، لكنها تأخذ أبعادا نفسية عميقة عندما تكون خياراً قسرياً للنجاة من العنف، فالمرأة المُعنّفة لا تغادر وطنها فقط، بل تفرّ من دائرة أذى جسدي ونفسي واجتماعي مزمن، في محاولة لاستعادة الأمان والكرامة. هذا النوع من الهجرة يتجاوز البعد الاقتصادي، ليصبح آلية بقاء نفسي في مواجهة واقع مغلق لا يمنحها حماية ولا صوتا".


وتوضح عيسى أن المرأة المُعنّفة تعيش تحت وطأة خوف دائم من تكرار الأذى، لكن ما يدفعها فعلياً للتفكير في الهجرة هو الإحساس بانسداد الأفق داخل مجتمعٍ لا يحميها، فعندما تفقد الثقة في القانون والعائلة والمجتمع، تتكوّن لديها حالة تُعرف نفسياً بـ"اليأس المتعلَّم"، وهي شعور بالعجز وفقدان السيطرة على المصير. ومن هنا، تصبح الهجرة منفذ نجاة نفسي ووجودي".


وتضيف: "من منظور علم النفس، يمكن فهم الهجرة في هذه الحالة كنوع من آليات الدفاع التي يستخدمها العقل البشري لحماية الذات من الانهيار، فالمرأة لا تهاجر لتغيير بيئتها فحسب، بل لتُعيد تعريف ذاتها خارج إطار الضحية، في محاولة رمزية وجسدية في آنٍ واحد للابتعاد عن المكان الذي شهد الألم، واستعادة الإحساس بالسيطرة والحرية. ومع ذلك، تبقى هذه الخطوة هروبًا علاجيًا جزئيًا، لا يكتمل أثره دون مواجهة الجرح الداخلي لاحقا."


وتؤكد عيسى أن الهجرة وحدها ليست حلاً كافياً، "ففي المرحلة الأولى من حياة المرأة بعد الهجرة، تشعر بارتياحٍ عميقٍ لأنها ابتعدت أخيرًا عن مصدر العنف والخوف، لكن سرعان ما تتسلل إلى قلبها مشاعر أخرى مثل الوحدة والعزلة والشعور بالذنب لترك الأهل أو الأطفال، إضافة إلى صراع الانتماء والهوية. تمرّ المرأة في هذه المرحلة بما يمكن تسميته بـ"النجاة المزدوجة، " فقد نجت من الخطر المادي، لكنها لا تزال تواجه جراحاً نفسية وعاطفية عميقة". وتضيف: "المرأة المُعنّفة التي تُهاجر تجد نفسها بين عالمين: وطن مؤلم تركت فيه ذاتها القديمة، ووطن جديد آمن لكنه بارد عاطفيا، فالهجرة قد تُوقف العنف، لكنها لا تمحو أثره".


وتُفسّر أن الصدمة النفسية الناتجة عن التعنيف تبقى نشطة حتى بعد الانتقال، وقد تظهر في شكل قلق أو كوابيس أو نوبات خوف أو عزلة اجتماعية. "لهذا السبب، تحتاج المرأة الناجية إلى علاجٍ متخصص بالصدمات النفسية ودعم مستمر لتتعلم كيف تعيش بسلام مع ماضيها دون أن تظل أسيرته."


 وتؤكد أن الهجرة بالنسبة للمرأة المُعنّفة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل رحلة عميقة من الظل إلى الضوء؛ هي إعلان صامت عن الرغبة في الحياة، ورفض للعنف الذي صادر حريتها وكرامتها. لكن النجاة الحقيقية لا تكتمل إلا حين تتحول الهجرة من فعل هروب إلى فعل شفاء.


المرأة لا تهاجر لتغيير بيئتها فحسب، بل لتُعيد تعريف ذاتها خارج إطار الضحية، في محاولة رمزية وجسدية في آنٍ واحد للابتعاد عن المكان الذي شهد الألم، واستعادة الإحساس بالسيطرة والحرية.



لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

تعليقات


Thanks for submitting!

Follow Us !

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter

Thanks for submitting!

فتيات ضحايا لهيمنة العادات بمستقبل مجهول.png
bottom of page