top of page

المنطقة الصناعية بكواشي في دهوك تهديد وجودي للسكان الحائرين بين الهجرة او مواجهة الأمراض

تاريخ التحديث: قبل 7 أيام


المنطقة تنتظر معالجات جذرية توقف تلوث المياه والتربة والهواء وتعيد الحياة للحقول الزراعية وسط تأكيدات أن الإغلاق المؤقت لبعض منشآتها لا يمثل حلا.

تحقيق سعاد عبدالقادر  وإيناس حسن 


تتصاعد أبخرة وأدخنة المصانع من المنطقة الصناعية في كواشي (25 كم شمال مدينة دهوك)، مُشكلةً سحبا من الأدخنة الملوثة التي تمتد إلى قرى وتجمعات سكانية على بعد عدة كيلومترات، حاملةً انبعاثات خطرة، فيما تتسرب المخلفات السائلة للمصانع دون معالجة الى التربة وتختلط بالمياه الجوفية، مهددة مساحات شاسعة من الأراضي ومعها صحة الآلاف من سكان المنطقة ومحيطها. 



في قرية كواشي المحاذية للمنطقة الصناعية، تواجه سهام عمر، ربة بيت تبلغ من العمر 45 عاماً، وهي أم لخمسة أطفال، تحديات يومية بسبب تلوث الهواء، مثل باقي سكان القرية، فبعض أفراد أسرتها يعانون من مشكلات في الجهاز التنفسي بما فيها الربو واحتقان مزمن في الحنجرة . "الأطفال يعانون باستمرار من الأمراض.. أشعر بالعجز حيال ذلك"، تقول بكلمات متقطعة وهي تحتضن أصغرهم الذي أخذته نوبة سعال.


تحاول سهام توفير العلاج لعائلتها، لكن تكاليف الأدوية تثقل كاهلها في ظل محدودية دخل زوجها الذي يعمل صباغا، مما يزيد من ‏شعورها بالعجز. 


تسير سهام مع أطفالها يوميا إلى المدرسة التي تبعد 400 م عن المنطقة الصناعية التي تأسست منذ 20 عاما، وتلاحظ كيف أن أقرانهم يعانون من ذات الأعراض "لم يعد بإمكانهم اللعب كما كنا نفعل في الماضي"، تقول وهي تتذكر بحسرة كيف كانت حياتهم قبل أن يغيّر "التلوث" كل شيء. 

بعد عشرات الشكاوى وسنوات من محنة العيش في محيط من الملوثات نتيجة أنشطة ومخلفات مصافي نفطية بدائية، جاء قرار حكومي في مطلع العام 2025 بايقاف عمل المنشآت غير المرخصة، وهو ما "خفف من معدلات التلوث وانقذ السكان من أثر الروائح الكريهة، وشكل أملا باستعادة حياتهم المفقودة".

يقول (أ.م) أحد سكان كواشي، بنبرة قلقة: "نأمل أن يكون هذا التوقف نهائيا وأن لا تعود تلك المصافي إلى العمل مجددا، فقد توقفت في مرات سابقة لأسابيع وشهور ثم عادت بعد ذلك للعمل وتلويث حياتنا".

يوثق هذا التحقيق، كيف حوّلت المنطقة الصناعية بكواشي حياة السكان في محيط يمتد لأكثر من عشر كيلومترات إلى معاناة لاتنتهي بسبب تلويث الهواء بما يخلفه من أمراض خطرة، وتلويث التربة نتيجة مخلفات الأنشطة الصناعية التي دمرت الأراضي الزراعية وأثرت على الثروة الحيوانية، الى جانب التلوث السمعي والروائح الكريهة التي لا تنقطع عن المنطقة.


إغلاق 12 مصفى غير مرخص


في 14 كانون الثاني 2025، أصدرت إدارة محافظة دهوك قرارا بإغلاق 12 مصفى غير مرخص في المنطقة، كاستجابة لمطالب الأهالي ومنظمات مدنية، بعد تزايد الشكاوى ومع ارتفاع في معدلات بعض الأمراض بما فيها الإصابات السرطانية.

القرار انعكس ايجابيًا على هواء المنطقة، بحسب العديد من السكان المحليين، الذين لم يخفوا قلقهم من عودة عمل تلك المنشآت، خاصة أن أصحابها لم يقوموا بمعالجات تنهي طرح سمومها في الهواء والتربة، ولم يقوموا بتفكيكها أو حتى تغيير نشاطها، مشيرين الى ان الآثار البيئية فيما يتعلق بالتربة والمياه ورائحة المواد الكيميائية ما تزال موجودة.

منذ أن منحت مديرية التنمية الصناعية التصاريح لجعل منطقة كواشي منطقة صناعية في عام 2005، وخصصت لها البلدية مساحة 2200 دونم في قلب منطقة تعرف بأراضيها الزراعية الخصبة، حصل توسع سريع بعد سنوات بافتتاح العديد من المصانع وفي مختلف القطاعات، في وقت توسعت مدينة سميل المجاورة كما مدينة دهوك القريبة، وباتت روائح مخلفات المصانع تختلط بهواء بعض أحياء المدينتين.

ونتيجة غياب التخطيط الصناعي الفعّال والمتابعة من قبل الجهات المعنية، تم توطين صناعات متنوعة، بعضها معروفة بمخلفاتها الملوثة للبيئة، كالمصافي، الى جانب الصناعات الانشائية والأسمنت والحديد، فضلا عن الصناعات الغذائية، وهي مصانع تختلف من حيث نوعية العمل والإنتاج، والطاقة المستخدمة، وحجم الانبعاثات والنفايات التي تطرحها.

خلال عشر سنوات، حوّلت بعض المصانع التي حصلت على تراخيص العمل، نشاطها من إنتاج الإسفلت أو الصناعات الإنشائية إلى إنتاج الكازويل ومواد اخرى في مصافي بدائية قديمة التصميم وبشكل غير قانوني، ليصل عدد هذه المصافي الى ستة واربعين مصفى في غضون ثلاث سنوات، وفقا لمعلومات بلدية سميل. وقد أدى هذا التحول لإطلاق كميات كبيرة من السموم في البيئة، ولم يقتصر الأثر على كواشي فقط، بل امتد ليشمل العديد من القرى والمناطق المجاورة.

مالك أحد المصافي البدائية غير المرخصة التي تم اغلاقها، والذي شدد على عدم ذكر اسمه، قال انه قدم طلباً للحصول على ترخيص لإنشاء مصنع الأسفلت في بداية انشاء المنطقة، وحصل على الترخيص. وكما هو الحال مع مالكي المصافي الأخرى قام لاحقا بتحويل نشاطه إلى إنتاج الكازويل. 

ذلك التحايل على اصل الترخيص الممنوح، استمر لسنوات في ظل ضعف الرقابة، وكان الإنتاج من الكازويل رديء النوعية يجد طريقه للأسواق فيما مخلفات تلك المنشآت تدمر البيئة المحيطة.

شهدت سنوات العمل تلك، فترات توقف قصيرة، وقامت الحكومة المحلية بسحب التراخيص منهم وفرضت غرامات وعقوبات لأكثر من مرة، ووصل الأمر إلى توقيع تعهد بعدم مزاولة تلك الأعمال، دون ان يتوقف العمل فعليًا وبشكل نهائي، حتى قرار الإغلاق الأخير الذي صدر في منتصف كانون الثاني من العام 2025.


ارتفاع مستوى الإصابة بالسرطان 


في قرية باسطكي، المجاورة لكواشي، تعيش حليمة، 48 عامـا، ربة بيت وأم لثلاثة أطفال، أكبرهم في الخامسة ‏عشرة، عانت في العام 2024 من آلام في معدتها. في البداية اعتقدت ‏أنها نتيجة نظام غذائي غير صحي وضغوط الحياة اليومية.

مع مرور الوقت تفاقمت ‏الآلام، واضطرت معها الى زيارة العديد من الأطباء لتشخيص مشكلتها، وبعد أسابيع من خضوعها لفحوصات ‏شاملة وناظور للمعدة، أعلمها الطبيب بأنها ‏مصابة بورم سرطاني في المعدة.

"تجمدت لحظتها.. شعرت كأن الأرض انزلقت من تحت قدمي، وأني محاطة بظلام كثيف.. من يومها تغير كل شيء في حياتي" تقول حليمة التي بدأت رحلة علاج كيمياوي في مستشفى دهوك العام.

تؤكد السيدة، انها الوحيدة في عائلتها التي ‏تعاني من هذا المرض، وانه لا تاريخ وراثي له في عائلتها، وتضيف :"اصابتي لم تكن الأمر مجرد ‏حالة فردية استثنائية، فمع كل زيارة للطبيب، كنت أسمع المزيد عن انتشار السرطان بمعدلات متسارعة في المدينة".

وفقاً لناشطين مدنيين، تزامنت زيادة حالات الإصابة المسجلة بالأمراض التنفسية والجلدية والسرطانية في المنطقة، مع ارتفاع معدلات التلوث الناتج عن تزايد المنشآت في المنطقة الصناعية، مما أثار القلق بشأن صحة السكان وجودة حياتهم.

في وقت أظهرت احصاءات رسمية (وان لم تكن شاملة كون العديد من المرضى يطلبون العلاج في دول أخرى) زيادة في اعداد الاصابات السرطانية في دهوك، بعد العام 2014 وفي السنوات اللاحقة، عدا 2020 و2021 حين شهدت البلاد ازمة كورونا التي منعت الكثير من المرضى من مراجعة المستشفيات لتشخيص امراضهم خوفا من الفيروس. 


المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء في العراق
المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء في العراق

تظهر أرقام الجهاز المركزي للإحصاء في العراق خلال الفترة من 2013 الى 2024، ارتفاعا في دهوك لحالات الاصابة من 486 في عام 2013 إلى 1217 حالة نهاية عام 2024، وهي زيادة تزامنت مع ارتفاع مستويات التلوث البيئي الناتجة عن الانبعاثات الصناعية لنحو 50 مصفى معظمها بدائية ومخالفة للتعليمات والضوابط البيئية.


وأظهرت النتائج المستخلصة من تحقيق استقصائي للصحفي صلاح بابان، نشر على منصة "نيريج" عبر تحليل بيانات عينة من 50 مصاباً بالسرطان في إقليم كردستان أن 96% من هؤلاء الأفراد يعيشون بالقرب من حقول ومصافٍ نفطية. 


خارطة تظهر فيها قرية كواشي بجانب المنطقة الصناعية
خارطة تظهر فيها قرية كواشي بجانب المنطقة الصناعية

التركيب الصناعي لمنطقة كواشي


وفقا لاحصائيات بلدية سميل، فإن منطقة كواشي الصناعية تشمل ما يقارب الـ 200 مصنعاً تعمل في مجالات الصناعات الإنشائية التي توفر المواد اللازمة للبناء، والصناعات الغذائية والبلاستيكية والمعدنية والخشبية والكيميائية والورقية والنسيجية. كما تضم المنطقة الصناعات المتخصصة في تكرير النفط، والصناعات الكهربائية، وصناعات الدباغة، فضلا عن الصناعات شبه الفلزية التي تتعامل مع المعادن غير الحديدية.

يظهر هذا التوزيع لتوطين الصناعات في المنطقة، ضعف التخطيط الصناعي وعدم مراعاة الشروط البيئية اللازمة، فغالبا ما يتم إنشاء المصانع دون تقييم شامل للآثار البيئية المحتملة.

وتلزم القوانين والتشريعات البيئية مراعاة المسافة بين المناطق الصناعية والتجمعات السكنية. في هذا الصدد، يشير الدكتور إبراهيم خشمان، تدريسي في جامعة دهوك في مجال التنمية الصناعية، إلى أن مستويات التلوث الصناعي في المنطقة الصناعية بكواشي تتحدد وفق النظام التصنيفي الصادر في تعليمات المحددات البيئية لإنشاء المشاريع ومراقبة سلامة تنفيذها رقم 3 لسنة 2011 والتي حددت بموجبها المتطلبات البيئية لتحديد الصناعات موقعيا حسب درجة تلوثها.

ويضيف، كما أن كل صنف من الصناعات يخضع لمحددات موقعية وفقاً للتصنيف الصادر من دائرة صحة وتحسين البيئة التابعة لوزارة الصحة في الحكومة العراقية، والتي تُستخدم كمصدر رئيسي لتحديد درجات التلوث الصناعي التي يتم تقسيمها الى:


  1. الصنف (أ): الصناعات المسببة لدرجة كبيرة من التلوث.

  2. الصنف (ب): الصناعات المتوسطة التلوث.

  3. الصنف (ج): الصناعات قليلة التلوث.

ووفقا للشروط والضوابط البيئية التي تحدد التوطن الصناعي في العراق، تُحدّد المسافات المطلوبة بين أماكن وجود الصناعات وبين المناطق السكنيةـ حيث تتطلب الصناعات المدرجة ضمن الفئة (أ) ومن بينها المصافي ومكبات طمر النفايات، أن تكون على بعد لا يقل عن 15 كيلومترا من المناطق السكنية خارج حدود البلدية. أما بالنسبة للصناعات ضمن الفئة (ب)، فتتراوح المسافة المطلوبة ما بين 3 كيلومترات إلى 500 متر حسب نوع النشاط ودرجة الانبعاثات والتلوث. وبالنسبة للصناعات من الفئة (ج)، فإن المسافة تتحدد وفقا لنوع النشاط، وتتراوح بين 250 و500 متر.

وحسب" خشمان"،  تصنف الصناعات الإنشائية والنفطية ضمن الصنف (أ) ، حيث تضم منطقة كواشي 36 مصنعاً ضمن هذا الصنف، مثل وحدات صناعة الأسمنت والأسفلت. وتتضمن المنطقة أيضا 34 مصنعاً ضمن الفئة (ب) الملوثة. في حين أن غالبية المصانع تقع ضمن الفئة (ج) قليلة التلوث.


ومع توزع كل تلك المنشآت عالية التلوث، ونتيجة الأثر البيئي الكبير لها، يلاحظ في خارطة التوزيع الجغرافي، أن منطقة كواشي من أكثر المناطق الصناعية تلوثا في قضاء سميل، ويّشار إليها باللون الأحمر.


المصدر : رئاسة بلدية سميل
المصدر : رئاسة بلدية سميل

التلوث السمعي مشكلة أخرى


في المنطقة الصناعية في كواشي، لا تنقطع أصوات حركة الصهاريج والشاحنات التي تمر على مدار الساعة، فتُسبّب الازعاج المستمر للمتساكنين. وتتداخل أصواتها مع أصوات مولدات الكهرباء ما يجعل من الصعب التركيز أو الاسترخاء.

ويشكو العديد من السكان من ذلك، مشيرين الى انهم بسببها يواجهون اضطرابات في النوم، وضعفا في القدرة على التركيز.

هذا الضجيج لا يؤثر فقط على الصحة النفسية، بل يعيق أيضا الحياة الاجتماعية، حيث يجد الناس صعوبة في التفاعل مع بعضهم البعض أو الاستمتاع بلحظات هادئة في منازلهم. 

في قرية كواشي، يعيش "محمد يونس"، البالغ من العمر 38 عاما، مع عائلته في بيت صغير قريب من الشارع الرئيسي. يقول: " منذ سنوات، أصبحت أصوات الصهاريج وسيارات الشحن التي لا تهدأ ليل نهار، جزأً من روتين حياتنا اليومية.. ومع الوقت تحولت بالنسبة لي إلى كابوس تشعرني بإرهاق دائم". ويتابع وهو يبتسم: "أستيقظ كل صباح وكأن هنالك معركة في الجوار". 


صورة  توضح قرب المنطقة الصناعية  والمصافي من المناطق السكنية.
صورة  توضح قرب المنطقة الصناعية  والمصافي من المناطق السكنية.

تدمير التربة والثروة الحيوانية


تذكر الباحثة "زيان سليمان" تدريسية في جامعة دهوك، أن الوحدات الصناعية في منطقة كواشي تشترك في إطلاق العديد من الملوثات الخطرة على التربة والمياه، مثل المذيبات والأملاح والزيوت.

وتوضح :"تترك الصناعات الإنشائية ملوثات عديدة تشمل الـ(فلوريدات، فورمالديهايد، هكسان، فينول، وتولوين)، بالإضافة إلى المياه الملوثة بمخلفات الأسمنت بأنواعه، فيما تساهم التسربات والانسكابات الناتجة عن الصناعات النفطية في تفاقم الوضع، ومن هنا تتعرض التربة لمخاطر جسيمة".

وتضيف الباحثة أن النشاط الصناعي المتزايد يمارس دوراً كبيراً في زيادة المخلفات بأنواعها بما في ذلك الخطرة، مما يحمل تأثيرا جسيما على صحة الإنسان بشكل خاص، وعلى الهواء والتربة والنبات والحيوان بشكل عام، منبهة الى ان صناعة تكرير النفط والصناعات الكيميائية والمعدنية كلها تنتج مخلفات خطرة غالبا ما يتم التخلص منها بطمرها في باطن الأرض.

وتحذر سليمان:"تؤدي عملية الطمر تلك الى إلحاق ضرر كبير بالبيئة، حيث يتم ذلك دون معالجة فعّالة ميكانيكياً أو كيميائياً داخل المصنع".


خلصت دراسة للباحثين روناك عبد العزيز ومصطفى اسماعيل، من كلية الهندسة الزراعية في جامعة دهوك صدرت في العام 2022، إلى أن التسريبات الملوثة لمصافي النفط البدائية والمصانع قد وصلت إلى المياه الجوفية في بعض القرى الواقعة أسفل منطقة كواشي الصناعية.

تحتوي المياه العادمة لمصافي النفط البدائية أيضا على مجموعة واسعة من المركبات العضوية الأليفاتية، وهي مركبات عضوية بسيطة تتكون من سلاسل كربونية مستقيمة أو متفرعة توجد عادة في مشتقات النفط، الى جانب المركبات العطرية وهي مركبات كيميائية اكثر تعقيدا تحتوي على حلقات بنزين مثل البنزين والتولوين وتعتبر أكثر سمية وقد تكون مسرطنة.

وتؤدي المركبات التي تحتوي على سلاسل كربونية (الأليفاتية) إلى مشكلات في التنفس، وتسمم الكبد والكلى. أما المركبات العطرية فقد تسبب التسمم المزمن وتزيد من خطر الإصابة بالسرطان، خاصة سرطان الدم، كما قد تؤثر هذه المواد على الجهاز العصبي والدم، مما يجعل التعرض المستمر لها يشكل تهديدا للصحة العامة.




صور توضح الأثر البيئي الذي تخلفه مخلفات المصافي والمصانع على التربة في المنطقة
صور توضح الأثر البيئي الذي تخلفه مخلفات المصافي والمصانع على التربة في المنطقة

ويوضّح الباحث فرهاد علي هاشم في دراسة منشورة بمجلة جامعة زاخو تناولت تأثير التلوث والتسرب الناجم عن مصافي النفط في ‏منطقتي نزاركي وكواشي في دهوك، أن انسكاب النفط يؤدي إلى انخفاض درجة حموضة التربة، وزيادة نسبة ‏النيتروجين الكلي، ونسبة الكربون العضوي الكلي، بالإضافة إلى ارتفاع تركيزات الرصاص والحديد في ‏المنطقة الملوثة.

وتؤكد الدراسة على تزايد خطر المعادن الثقيلة مع مرور الوقت نتيجة انسكاب النفط الخام، خاصة عند ‏وقوعه بالقرب من الأراضي الزراعية.

أثر مصادر التلوث تلك، لا يتوقف على البشر والتربة وإنما يتعدى ذلك إلى الحيوانات أيضا وهذا ما يؤكده الباحث "عبدالعزيز اسماعيل"، مبينا في دراسة أكاديمية، ان الإنبعاثات والتسربات الخطرة التي لا تتم معالجتها سريعا وبشكل يومي وفق المتطلبات البيئية، تتسبب في تلوث بيئة رعي الأغنام.



ويقول ان مجاري رئيسية للمخلفات السائلة للمصانع تنشأ وتنحدر إلى "سهل سليفاني ومنطقة دوبان" الشهيرة بانتاج القمح ورعي الأغنام، وان تلك المخلفات تصل في النهاية إلى سد الموصل.

توثق الدراسة تأثيراً ملحوظاً على موطن ونشاط 15,000 رأس من الأغنام، إذ أن ندرة الموارد المائية في هذه السهول، خاصة في فصل الصيف، تُجبر الأغنام على شرب هذه الملوثات الخطرة، مما ينقلها عبر سلسلة الغذاء إلى الإنسان. 

وبحسب الباحث، فان الدراسة حققت في العديد من الحالات الصحية المباشرة، كتعرض الأغنام للإغماء بسبب التأثيرات السلبية للملوثات الثقيلة، ونفوق عدد كبير منها.

تؤثر الملوثات أيضاً على معدل تكاثر الأغنام، حيث تحدث حالات إجهاض تصل الى 100 حالة سنويا خلال فترة الحمل، الى جانب تعرض الأغنام لأمراض مختلفة كالصرع والتهاب العيون وتدهور الرؤية، مشيرا الى تشخيص اصابة نحو 50 رأس من الغنم في قرية واحدة بإلتهابات في العيون.


مركز فرز النفايات يُفاقم الوضع 


كل يوم يبدأ (س.ع) (34 عاما) صباحه على صخب الآلات ومزيج روائح أكوام النفايات والمواد الكيميائية، فهو يعمل لساعات في معمل لفرز النفايات بالقرب من كواشي، ويفرض عليه عمله التعامل المباشر مع مختلف أنواع النفايات.

هو أحد سكنة القرية، ورغم صعوبة الوضع هناك وتهديد الملوثات، لكنه مضطر للاستمرار في عمله وفي السكن قرب مصادر الخطر تلك، يقول: "الانتقال الى مكان آخر وعمل آخر، صعب جدا... لا أحد يريد شراء بيتي، ثم أين سأجد مكاناً يضم عائلتي وبسعر رخيص؟".

في معمل فرز النفايات، تتم معالجة ما بين 300 إلى 500 طن من النفايات المنزلية والصناعية يومياً. وتحدث هذه العمليات تلوثا في المياه والتربة نتيجة صرف المخلفات المتبقية الى الأرض، علاوة على إطلاق غازات دفيئة مثل الميثان وكبريتيد الهيدروجين.

تم إنشاء ثلاث قنوات لصرف مخلفات هذه النفايات الصناعية، واحدة تتجه نحو الطريق الدولي الرابط بين زاخو وتركيا، واثنتان تشكلان قنطرة رئيسية تصل إلى مياه سد الموصل، الذي يبعد 25 كيلومترا.

تأثرت عشرات القرى بهذه النفايات، بما في ذلك ( كواشي، مقبلة، مارينا، باتيل، باستكى، كيرراش، كردير، ملا حسن، ميسيريك، سايدزار، وقرية كريكاور) التي تقع على جانبي هذه القناة، وتغطي منطقة الرعي الرئيسية. يعتمد معظم السكان في هذه القرى على تربية الأغنام ورعيها مما يزيد من المخاوف بشأن تأثيرها على الصحة.

ووفقا لمصدر حكومي طلب عدم كشف اسمه، تقدم أهالي قرية مارينا، التي تبعد 7 كيلومترات عن المنطقة الصناعية، بشكوى إلى الجهات المعنية بسبب تلوث المياه الجوفية في قريتهم. بناء على ذلك، تم تشكيل لجنة مختصة أظهرت متابعتها أن الملوثات الناتجة عن مكب فرز النفايات تتجه عبر مسار معين نحو أراضي القرية.

لمعالجة المشكلة، تولت شركة أجنبية، حفر بئر لطمر المخلفات ومنع وصولها إلى القرية، كحل مؤقت ومن دون علم الجهات الحكومية. ومع ذلك، تفاقم الوضع بسبب تشكل مياه راكدة واختلاط ملوثاتها بالمياه الجوفية. لاحقا، تم تحويل هذه المياه من راكدة إلى جارية لتخفيف حدة المشكلة. 


صورة لمعمل فرز النفايات في منطقة كواشي الصناعية 
صورة لمعمل فرز النفايات في منطقة كواشي الصناعية 


الخسائر الاقتصادية


يؤثر التلوث الناجم عن المناطق الصناعية بشكل كبير على قيمة العقارات في المناطق المحيطة، سواء كانت مباني سكنية أو أراضي زراعية، حيث ينخفض الطلب على العقارات في تلك المنطقة نتيجة المخاوف من التلوث الناتج عن هذه الصناعات، سواء كان ذلك من انبعاثات الغازات الضارة أو المواد الكيميائية، وفقا لفهمي كيكاني، صاحب مكتب لبيع وشراء العقارات. 

يقول "كيكاني" ان القيمة السوقية للعقار تنخفض هنا، والمساكن عموماً تُباع بأقل من نصف قيمتها الأصلية، فالمنزل الذي يُقيّم ب 60 ألف دولار، لا يباع إلا بنصف هذا المبلغ، كذلك الحال بالنسبة للأراضي الزراعية المجاورة للمناطق الصناعية، والتي يكون الاستثمار فيها ضعيفا جدا خاصة مع وجود تحذيرات حول سلامة تربتها، وهو ما يشكل خسارة مالية كبيرة.

وفق ذلك، وعلى الرغم من المخاطر، تضطر الكثير من العوائل على البقاء في كواشي لعدم قدرتها على بيع  بيوتها والانتقال إلى مكان آخر.


منظمات مجتمع مدني على الخط


وفقا لاحصائيات دائرة المنظمات يضم إقليم كردستان أكثر من 400 منظمة معنية بالشأن البيئي، تعمل جميعها تحت شعار حماية البيئة. ورغم هذا العدد الكبير، يبقى الحراك المجتمعي عموماً غائباً عن جهود التصدي للتدهور البيئي.

يقول هكار ريكانى، المؤسس والمدير لمنظمة (YAKDAR) لحماية البيئة في دهوك، إن "المواطنين يعانون بشكل حقيقي من الآثار الصحية والبيئية التي تسببها بعض المنشآت الصناعية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار ما يحدث أمراً طبيعياً".

وأشار ريكانى إلى أن "الصمت المحيط بهذه القضية يعود إلى أن الناس يصمتون عن المشكلة، والسلطات لا تبادر بأخذ أية خطوات فعلية لإغلاق تلك المصانع والمصافي الملوثة بشكل تام"، معربا عن اعتقاده بأن بعض شخصيات المجتمع المحلي يمتلكون حصصا في تلك المصانع، بينما تستفيد السلطات من الضرائب المفروضة عليها "ما يخلق شبكة مصالح تُبقي الوضع كما هو عليه".

وتطرق ريكاني إلى الصعوبات التي تواجهها المنظمة في جمع البيانات البيئية الدقيقة، موضحا أنه "لا توجد حتى الآن دراسات علمية متخصصة كافية حول منطقة كواشي، لكن من خلال ازدياد حالات الإصابة ببعض الأمراض كالسرطان، بحسب شهادات أقارب الضحايا، نستطيع أن نستدل على مدى التأثير السلبي لهذه المصانع على صحة السكان".

يسترسل ريكاني: "تلقيت شخصياً العديد من الشكاوى من سكان المناطق المحيطة بكواشي، سواء عبر المنصات الإلكترونية أو خلال الفعاليات التي أقمناها، غالبية الشكاوى تدور حول الروائح الكريهة المنبعثة من المصانع، خاصة خلال ساعات الليل حيث تعمل المصانع بوتيرة اعلى وتزداد حدة الروائح".

ويؤكد أن أصحاب تلك المصانع على "علم تام بحجم الضرر الذي تسببه بعض نشاطاتهم الصناعية سواء على العاملين أو على السكان المحيطين، ومع ذلك لا يتخذون أية إجراءات للحماية".

في اطار عملها، قامت منظمة YAKDAR بعدة مبادرات للحد من تأثير التلوث، شملت زراعة الأشجار في المناطق المجاورة لكواشي، وحملات توعية لحث المواطنين على الابتعاد عن المناطق الملوثة، وهي تخطط، بحسب مسؤوليها، وبالتواصل مع الجهات الحكومية، لإدامة الضغط من أجل استمرار إغلاق تلك المصانع، وايجاد حلول مشتركة لتخفيف باقي مصادر التلوث.

يرى الناشط البيئي دلشاد محمد (35 عاما) ان الوعي البيئي مهم جدا للحفاظ على بيئة نظيفة لكن ذلك وحده غير كافي، مضيفا: "في السنوات الأخيرة بدأ الكثير من الأهالي بإدراك المخاطر البيئية نتيجة تزايد الاصابات السرطانية، لكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لتحويل الوعي الى جهود مثمرة لمحاربة مصادر التلوث".

يؤكد بدوره الناشط البيئي "بختيار زيباري" ذلك، ويقول انه وزملاءه بذلوا جهدا كبيرا للتوعية بمخاطر التلوث، بما فيه انتاج فيديوهات وتقديم ورشات توعوية للعاملين في المصانع والمصافي لتثقيفهم بكيفية حماية أنفسهم من التلوث في بيئة عمل خطرة.


عقدة تنفيذ القرارات


باشرت مديرية البيئة في دهوك أعمالها كجهة رقابية تهدف إلى حماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية في العام 2011، بالتزامن مع تزايد التحديات البيئية نتيجة ارتفاع حجم النشاطات الصناعية ومع التوسع العمراني.

يقول دلشاد عبدالرحمن، مدير البيئة في محافظة دهوك، انهم يدركون حجم المخاطر البيئية المتراكمة وما تسببه المصانع ومصافي النفط غير المرخصة من تلوث، مبينا أن المديرية "تراقب بشكل دائم عمل هذه المصانع وتوجه إنذارات للمخالفين تتبعها غرامات مالية قد تصل إلى عشرة ملايين دينار".

لكن ذلك وحده غير كافي، خاصة ان المديرية جهة رقابية لا تملك صلاحية إغلاق أي مصنع، حيث أن هذه الصلاحيات تعود للجهات التنفيذية في المحافظة.

يضيف دلشاد:

منذ سنوات ونحن نطالب الحكومة المحلية بالتدخل وإغلاق هذه المصافي، خاصة وأنها غير مجازة رسمياً من مديرية البيئة، فقد أقيمت حين لم تكن مديرية البيئة موجودة، واستمرت في عملها من خلال التحايل على القانون.

ويوضح:"حصلت هذه المصافي على إجازة من دائرة التنمية الصناعية لتباشر أعمالها كمصانع للأسفلت، إلا أنها حولت نشاطها فيما بعد إلى تكرير النفط، واستمرت في العمل هكذا لسنوات عديدة قبل ان يأتي القرار الأخير باغلاقها".

يرى محمد طاهر بريفكاني، المدير السابق لمديرية البيئة في دهوك، ان التلوث في المنطقة بدأ فعلياً منذ إنشاء المنطقة الصناعية في كواشي، وتحديداً بعد ظهور مصافٍ غير قانونية بُنيت على أراضٍ غير مخصصة لهذا الغرض، ما أدى إلى تلوث الهواء والماء والتربة بشكل خطير.

ويوضح :"تلك الأراضي كانت مخصصة لمعامل انتاج الاسفلت أو البلوك، ولم تكن مسجلة لدى الدوائر الرسمية كمصافي، فعملت خارج الأطر القانونية وتسببت في انبعاث الغازات السامة وتسرب المخلفات إلى المياه الجوفية".

ويذكر بريفكاني أن دائرته كانت قد فرضت غرامات وصلت إلى 8 ملايين دينار عراقي على بعض المصافي، استنادًا إلى قانون حماية وتحسين البيئة لعام 2008، الذي ينص على فرض غرامات مالية على الأفراد أو المؤسسات التي تسبب تلوثًا للبيئة أو تتسبب في الإضرار بالتوازن الطبيعي.

وذات القانون يسمح بـ إغلاق المنشآت التي تساهم في التلوث البيئي أو التي لا تلتزم بالمعايير البيئية، مع تحميل الملوثين مسؤولية إزالة التلوث الناتج عن أنشطتهم. لكن تطبيق القانون كما يقول "كان صعباً بسبب ارتباط بعض أصحاب المصافي بجهات سياسية نافذة، مما حال دون اتخاذ خطوات حازمة".

ويحذر المدير السابق لبيئة دهوك، من استمرار اهمال الملف البيئي: "لا تزال البيئة تُعامل كأولوية ثانوية في العراق رغم الدلائل الرسمية على ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض خطيرة في المناطق القريبة من مصادر التلوث".

ويذكر بريفكاني بأن إقليم كردستان ملزم باتفاقية باريس للمناخ التي صادق عليها العراق في نوفمبر 2021 والتي تفرض على الأطراف الموقعة عليها وضع سياسات وإجراءات ملموسة للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة ومن التلوث بجميع أشكاله.


هل ستبقى مغلقة؟


نسخة من الكتاب الخاص بعملية إغلاق المصافي غير المرخصة
نسخة من الكتاب الخاص بعملية إغلاق المصافي غير المرخصة

من مجموع 13 مصفى، في المنطقة الصناعية بكواشي، تم خلال النصف الأول من العام 2025 اغلاق 12 منها كونها غير مرخصة، وبقي مصفى واحد يعمل، حسب تصريحات مديرية البيئة في دهوك، كونه مرخصا ويعمل بتكنولوجيا نظيفة وملتزم بالمعايير البيئية والقانونية.

على الرغم من ذلك، تساور الشكوك الكثير من الناشطين البيئيين والأهالي بشأن امكانية الاستمرار بتطبيق الإجراءات والالتزام بالاغلاق الحاصل. يعلق الناشط البيئي، بختيار زيباري :"هذه الإجراءات غالبا ما تكون مؤقتة"، مذكرا باغلاقات سابقة ولمرات عديدة، لم تصمد طويلا وعادت للعمل بعد فترة.

زيباري يؤكد ان إغلاق المنشآت الصناعية غير المرخصة خاصة الملوثة للبيئة يجب أن يكون مسؤولية اجتماعية يتصدى لها الجميع "وجزءاً من استراتيجية حكومية شاملة للتخفيف من الأضرار البيئية، وليس مجرد إجراء عابر"، داعيا الحكومة الى الاستثمار في بدائل أنظف وأكثر استدامة "كي لا يصبح التلوث مهددا لحياة الجميع".


تم انتاج هذا المقال ضمن مشروع أصوات نساء بلا حدود العراق، مبادرة من منظمة المساعدات الإنسانية والصحافة (AHJ)وبدعم من وزارة اوروبا والشؤون الخارجية.جميع حقوق النشر محفوظة لمنظمة AHJ لا يجوز استخدام هذا المحتوى أو إعادة نشره دون إذن خطي مسبق من المنظمة.

Comments


Follow Us !

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter

Thanks for submitting!

فتيات ضحايا لهيمنة العادات بمستقبل مجهول.png
bottom of page