top of page

البخور.. رائحة عبقة تخفي مخاطر صحية وبيئية تهدد العاملات في مجال صناعته

ree

ريم الفضلي وشيماء شائع 


في قلب التقاليد اليمنية الأصيلة، التي تحتفي بصناعة البخور لتملأ أجواء البيوت بالروحانية والجمال، تقف فئة من النساء في صميم هذه الصناعة العريقة،  إنهن العاملات اللاتي يمضين ساعات طويلة في تحضير وتغليف هذه المادة العطرية المحبوبة عند اليمنيين، لكن خلف هذا المشهد المفعم بالروائح الزكية، تلوح في الأفق مخاطر صحية تهدد سلامتهن. 

يستعرض هذا التقرير عن كثب الآثار السلبية المحتملة لتعرض النساء العاملات في صناعة البخور بشكل يومي ومستمر لهذه المواد، مسلطًا الضوء على التحديات الصحية التي يواجهنها وضرورة إيجاد حلول لحمايتهن في ظل استمرارهن في إحياء هذا الموروث الثقافي الهام.


رحلة الإنتاج المحفوفة بالمخاطر


قدرية محمد، سيدة تعمل في تحضير البخور بكميات كبيرة لمحلها الخاص تقول: “كنا ننتج من 10 إلى 15 كيلو في الشهر الواحد. ولكن تضررنا وأصيبت أيدينا بالتقرحات، وعانينا من جفاف البشرة وتهيج العينين، حتى التنفس أصبح صعبًا، وظهرت عندي أعراض الربو". وتضيف أن العمل في تحضير البخور موسمي أحيانًا، لكن عند الضغط على الإنتاج، تتفاقم الأضرار بسرعة، كما أنها لا تقتصر فقط على العاملات، بل تمتد إلى أفراد العائلة، خصوصًا الأطفال والمسنين الذين يتعرضون للدخان في المنزل. في هذا الصدد، تقول فاطمة وهي شابة تساعد والدتها في صناعة البخور في المنزل: "أحيانًا أشعر بدوار شديد وصداع بعد قضاء ساعات طويلة في العمل. كما أن عيني تحمر وتؤلمني".

لميس حسن، سيدة في عقدها الخامس تعمل في صناعة البخور العدني منذ  ثمانية أعوام، تؤكد أنها بدأت تعاني من مشاكل في الصدر، دفعتها إلى مراجعة الطبيب الذي نصحها بالتوقف عن العمل فورًا لما للبخور من تأثير مباشر على رئتيها. لكنها، مع الأسف، لا تملك مصدر رزق بديل.


تبدأ رحلة إنتاج البخور من جمع المواد الخام الأولية، كعيدان العود والصندل واللبان، وصولًا إلى إضافة العطور والزيوت العطرية ومثبتات الروائح. خلال كل هذه المراحل، تتعرض النساء العاملات بشكل مباشر ومستمر لكميات كبيرة من الدخان والأبخرة المتصاعدة.


تشير العديد من الدراسات والأبحاث إلى أن التعرض المزمن لدخان البخور يمكن أن يؤدي إلى مجموعة متنوعة من المشاكل الصحية، تتفاوت في حدتها بين بسيطة ومزمنة. من أبرز هذه الآثار: مشاكل الجهاز التنفسي، حيث تعاني العاملات من تهيج في الأنف والحنجرة، والسعال المزمن، والتهاب الشعب الهوائية، وضيق التنفس. ومع مرور الوقت، يزداد خطر الإصابة بالربو وأمراض الرئة الانسدادية المزمنة.

يمكن أن يتسبب الدخان المتصاعد من إنتاج البخور أيضا في تهيج العينين واحمرارهما، والشعور بالحكة والدموع، كما قد يؤدي إلى تهيج الجلد وظهور الحساسية والطفح الجلدي. أما استنشاق الأبخرة الكيميائية الموجودة في بعض أنواع البخور فقد يسبب الصداع والدوار والغثيان.

وتشير بعض الدراسات إلى وجود صلة محتملة بين التعرض لدخان البخور أثناء الحمل وزيادة خطر الولادة المبكرة أو انخفاض وزن المولود. كما أن التعرض الطويل الأمد لدخان البخور قد يُساهم في زيادة خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان، على الرغم من أن هذه الصلة لا تزال قيد الدراسة والبحث.


البخور يلوث الهواء ويهدد الحياة


تُحذّر الدكتورة خلود عبد الله، الأستاذة الجامعية المتخصصة في الكيمياء والخبيرة في الشؤون البيئية، من أن " الدخان الناتج عن حرق البخور لا يُهدّد فقط صحة الأفراد الذين يتعرضون له مباشرة، بل يمتد ضرره إلى البيئة المحيطة، ويؤثر على الغطاء النباتي والحيوانات".  وتضيف أن هذا النوع من التلوث " يُعرّض سكان المناطق القريبة لمخاطر صحية، خاصةً كبار السن، والأطفال، ومرضى الربو وضعف المناعة".  

وتوضح أن التأثير لا يرتبط فقط بكمية البخور المستخدم، بل بتكرار استخدامه العشوائي، حيث يُعتقد أنه يضفي رائحة جميلة على البيوت، لكنه في الواقع يتسبب في " تراكم الغازات الضارة في الأماكن المغلقة، مما قد يؤدي إلى الاختناق أو الوفاة، خاصةً في الأجواء الحارة أو الرطبة".

بيّنت دراسة بعنوان "تأثير حرق البخور/ورق الجوس على تلوث الهواء الخارجي"، المنشورة في Global Journal of Health Science (2024)، تم فيها استخدام نموذج السلاسل الزمنية المقطوعة (ITSA) لقياس تغيّر جودة الهواء خلال مهرجان ديني في مدينة هانوي بفيتنام، حيث يتم حرق البخور وورق الجوس بكثافة، أن مؤشر جودة الهواء ارتفع بمقدار 47 وحدة خلال فترة الحرق، مع زيادة كبيرة في تركيز جسيمات PM10 وPM2.5، مما يدل على الأثر التراكمي الخطير لهذه الممارسات التقليدية على البيئة الخارجية وصحة سكان المناطق المجاورة، خصوصًا كبار السن ومرضى الربو والحساسية.


هذا يُبيّن أن البخور، ورغم مكانته الثقافية، قد يتحول إلى مصدر رئيسي لتلوث الهواء، داخل المنازل وخارجها، ما يستوجب مراجعة هذه الممارسات وتوفير بيئات إنتاج واستخدام آمنة.


دخان البخور يحتوي على أكثر من 300 مادة سامة 


كشفت دراسة علمية أجرتها الباحثة فاطمة بنت غانم الباني في رسالتها للماجستير من جامعة الملك عبد العزيز، تحت عنوان: “دراسة التغيرات النسيجية والتركيب الدقيق لرئة الفئران نتيجة لاستنشاق دخان البخور”، أن الدخان الناتج عن حرق البخور يحتوي على مركبات عضوية متطايرة وهيدروكربونات عطرية متعددة الحلقات، تُعد من أخطر ملوثات الهواء، لما لها من تأثير مباشر على الرئة.

وأظهرت الدراسة أن الفئران المعرضة لدخان البخور ظهرت عليها تغيرات مرضية في أنسجة الرئة، شملت نزيفًا دمويًا، واحتقانًا في الأوعية، وتسربًا للدم داخل الشعيبات الهوائية. كما لوحظ تليف رئوي وتكاثر في النسيج اللمفاوي، وكلها علامات على وجود التهابات مزمنة يصعب عكس آثارها حتى بعد التوقف عن التعرّض للدخان.

ومن اللافت أن الدراسة بيّنت أن التوقف عن التعرّض للبخور لم يُحدث تحسنًا ملحوظًا في الأنسجة الرئوية، بل زادت حدّة التليف، مما يشير إلى أن الأضرار قد تكون دائمة أو شبه دائمة.

ووفقًا لمقال نٌشر في جريدة المصري اليوم في 2020، صرّح الدكتور حمدي عبد الجليل، أستاذ واستشاري الأمراض الصدرية والحساسية والربو الشعبي، أن دخان البخور يحتوي على  " أكثر من 300 مادة سامة، من بينها الفورمالدهايد، وأول وثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، وغيرها من المركبات العضوية المتطايرة التي توجد كذلك في دخان التبغ". ويؤكد أن " استنشاق هذه المواد يمكن أن يسبب التهابات مزمنة في المجاري التنفسية، ويزيد من خطر الإصابة بالحساسية الصدرية والربو وسرطان الرئة، خاصةً لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ وراثي في هذه الأمراض". ويوصي


" بعدم استخدام البخور أكثر من مرة أسبوعيًا، ولمدة لا تتجاوز عشر دقائق، وفي أماكن جيدة التهوية، وعدم تعريض الأطفال أو كبار السن له."


من جهتها، حذرت الاستاذة الجامعية، خلود عبد الله، المتخصصة في الكيمياء، من المخاطر الصحية المحتملة جراء تحضير البخور منزليًا،  مؤكدة أن عملية خلط المواد الأولية للبخور في المنازل ينتج عنها انبعاث غازات وأبخرة سامة تشمل الفينول والفورمالدهايد والبنزين والبارابين والاستيلين، مشيرة إلى أن جميع هذه المركبات تشكل خطرًا حقيقيًا على صحة الإنسان.

وأوضحت أن التحضير اليدوي للبخور، خاصة في ظل استخدام درجات حرارة عالية وعدم توفر تهوية مناسبة، يُعرّض العاملات لاستنشاق مباشر لهذه الأبخرة الضارة. و عددت الأضرار الصحية الناجمة عن ذلك، والتي تتضمن الاختناق والدوخة والصداع وتهيج الجلد والعين والجهاز التنفسي.

إلى جانب ذلك، لفتت الخبيرة الكيميائية إلى أن احتراق بعض المواد المستخدمة في صناعة البخور، مثل الكحول والجلسرين، يؤدي إلى إطلاق مركبات إضافية تساهم في زيادة تركيز السموم في الهواء المحيط. وخلصت إلى أن البخور، بالرغم من جوانبه الإيجابية المتعلقة بالجمال والرائحة، قد يتحول إلى مصدر خطير للتلوث الداخلي في المنازل عند تحضيره بطرق غير آمنة.


ضرورة التحرك لحماية العاملات في القطاع


تتطلب هذه المخاطر الصحية والبيئية تحركًا عاجلًا من السلطات وعلى عدة مستويات، منها أهمية تكثيف حملات التوعية لفائدة العاملات في هذا القطاع حول المخاطر الصحية المحتملة وضرورة اتخاذ تدابير الحماية اللازمة  مثل توفير الكمامات والنظارات الواقية، بالإضافة إلى توعية صانعات البخور بأهمية التهوية الجيدة لأماكن العمل.

هناك أيضا حاجة إلى إجراء المزيد من الدراسات والأبحاث المحلية لتقييم حجم وتأثير المخاطر الصحية لصناعة البخور بشكل دقيق، ووضع سياسات لحماية صحة العاملات في هذا القطاع.

إن توفير بدائل مستدامة، وتحسين ظروف العمل، وتقديم الدعم الصحي لهؤلاء النسوة هو ضرورة ملحة لإنصافهم وتمكينهن من بناء مستقبل أكثر أمانًا.


تواصلنا مع مدير دائرة التثقيف الصحي في وزارة الصحة في عدن، في خصوص هذا الموضوع وأخبرنا أنه لا توجد أية مبادرات حكومية حاليا لتوعية النساء من مخاطر صنع البخور داخل المنازل، مضيفا أن الوزارة ستعمل على تفادي هذا النقص مستقبلا. أما وزارة البيئة فقد أخبرتنا أنه لا تُوجد علاقة بين صناعة البخور والتأثير على البيئة والمحيط.

في الأثناء، تبقى معاناة النساء العاملات في صناعة البخور في اليمن شاهدًا حيًا على التحديات الصحية والبيئية التي تواجههن، فهل ستستجيب الجهات المعنية لحاجياتهن وتضع حدًا لمعاناتهن؟ 



لقد تم انتاج هذا المقال ضمن مشروع اصوات نساء بلا حدود، مبادرة من منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ)، وبدعم من مركز الازمات التابع لوزارة اوروبا والشؤون الخارجية



تعليقات


Follow Us !

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter

Thanks for submitting!

فتيات ضحايا لهيمنة العادات بمستقبل مجهول.png
bottom of page