top of page

في ليل بغداد، نساء بلا مواصلات ومضايقات متكررة

صورة الكاتب: تمارة عماد تمارة عماد


تقل حركة المواصلات عامة في بغداد مع غروب الشمس، وكذلك حركة الناس الذين يستخدمون وسائل النقل العام في الشوارع، إلا أن هناك العديد من النساء العاملات في مختلف القطاعات اللواتي تضطرهن ظروف العمل للبقاء خارج المنزل حتى ساعات متأخرة من الليل. ومع غياب وسائل النقل العام في ذلك الوقت، تصبح رحلة العودة إلى المنزل محفوفة بالمخاطر والتحديات.


بين "الكيات" والتكاسي الخاصة .. رحلة بحث عن الأمان في شوارع العاصمة

"رحلة العودة إلى المنزل مكلفة ومرهقة،" هكذا تصف سارة حميد (27 عاما)، أخصائية مستحضرات تجميل، معاناتها اليومية في التنقل من وإلى عملها في أحد المولات التجارية بجانب الرصافة من العاصمة بغداد.

تقول سارة، التي تسكن في منطقة الأعظمية، أنها تنفق ما يقارب 300 ألف دينار عراقي شهريًا على المواصلات، أي ما يعادل ثلث راتبها البالغ 850 ألفًا، وذلك بسبب اضطرارها لاستخدام سيارات الأجرة عبر تطبيقات مثل "كريم" أو "بلي" لضمان حد أدنى من الأمان، خاصة وأنها تعود إلى منزلها بعد التاسعة والنصف مساءً، حيث تغادر عملها قبل انتهاء دوامها الفعلي بنصف ساعة.

وتضيف: "رغم تكلفة تطبيقات التاكسي المرتفعة، إلا أن الأمر لا يخلو من المضايقات. أذكر مثلاً أن سائق سيارة أجرة سألني مرة عن طبيعة عملي وعرض علي توصيلًا يوميًا، ثم بدأ يسألني عن حالتي الاجتماعية، وعن سبب سماح أهلي لي بالعودة بمفردي في وقت متأخر"، مضيفة " المضايقات لا تنتهي، وهي تأخذ أشكالًا مختلفة، حتى وإن كانت غير مباشرة أحيانًا." وتوضح سارة أن منطقتها السكنية تفتقر لخدمة الحافلات، وأن استخدام سيارات النقل الجماعي (الكيات) يتطلب منها قطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام، ناهيك عن عدم توفرها بشكل دائم على طريق العودة مساءً. وتختتم حديثها قائلة: "بسبب هذه الصعوبات، أنا مجبرة على الاعتماد على سيارات الأجرة بشكل شبه كامل، وهذا يشكل عبئًا ماديًا ونفسيًا كبيرًا علي".



لا تختلف قصة نور ضياء (29 عاما)، طبيبة الأسنان، عن سابقتها، حيث تصف" العودة إلى منزلها مساء بالعبء الذي يثقل كاهلها"، معبرة عن واقع صعب تعيشه يوميًا في طريق عودتها من عيادة التجميل التي تعمل بها في منطقة المنصور إلى منزلها الكائن في حي الحسين بمنطقة الكرخ في بغداد. وتضيف:


"دوامي ينتهي في الثامنة مساءً، وهو توقيت تصبح فيه حركة سيارات الأجرة الجماعية (الكيات) محدودة للغاية. أجد نفسي مضطرة لركوب "كيات" على مرحلتين، وغالبًا ما تكون نقطة النزول الثانية في منطقة يسبقها شارع سريع، تفتقر لخدمة النقل العام، مما يضطرني في النهاية إلى استقلال سيارة أجرة."


ولكن الاضطرار إلى ركوب مواصلات عديدة ليس المشكل الوحيد الذي يواجه نور، حيث أن الانتظار في منتصف التقاطع للحصول على سيارة أجرة "ليس بالموقف المريح، خاصة وأنه يعرضني أحيانًا لمضايقات من بعض المارة. ويزداد الأمر صعوبة في فصل الشتاء، حين يصبح الوقوف في الشارع في البرد القارس ليلاً، لانتظار وسيلة نقل، تجربة قاسية على الصعيدين الجسدي والنفسي. لذلك، أضطر في أيام الشتاء إلى استقلال سيارة أجرة مباشرة من مقر عملي إلى المنزل، وهو ما يعني إنفاق أكثر من نصف راتبي على تكاليف النقل الخاص."

تدرك نور أن اللجوء لسيارات الأجرة ليس بالحل الأمثل، لكنه الخيار المتوفر في ظل غياب بديل حقيقي. وتقول: "أحاول التأقلم مع هذا الوضع، لكن الموضوع مرهق ماديًا ومعنويًا، كما أن هذه مشكلة من المفترض أن تعالجها الجهات الحكومية، لأن الحق في وسيلة نقل عام آمنة، وموثوقة، ومناسبة من حيث التكلفة هو حق أساسي لكل مواطن، لا سيما للنساء العاملات اللاتي يساهمن في بناء المجتمع." وتختم قولها بالتطلع إلى أن " يتحسن واقع النقل العام في بغداد، وأن تصبح رحلة العودة إلى المنزل بعد يوم عمل شاق أكثر يسرًا وأمانًا."


وزارة النقل تعد بافتتاح خطوط جديدة


يعاني نظام النقل العام في بغداد من فوضى عارمة، فهو أقرب لـ 'Paratransit'، أي مزيج من وسائل النقل العامة والخاصة، حيث تهيمن سيارات "الكيا" و"الكوستر" على المشهد. " هذا النظام يؤدي إلى افتقار خطوط النقل للكفاءة وعدم موثوقية جداول المواعيد، حيث يعتمد الركاب على العادات والتخمين لمعرفة أوقات وصول الباصات ومواقف توقفها، في غياب أي تنظيم رسمي. ويعزى هذا التخبط إلى عدم وجود تدريب كافٍ للعاملين في قطاع النقل، وانعدام التوافق بين المعرفة الأكاديمية والتطبيق العملي من قبل الهيئات الحكومية"، حسب ما جاء في مقال حول الموضوع، نُشر في أغسطس/آب 2024 في موقع العراقيون المبتكرون (مركز إعلامي وبيانات يغذي بيئة الاستثمار في العراق).


وجاء في نفس المقال، تصريح لفيصل علاء، وهو مهندس مدني حاصل على شهادتين بدرجة الماجستير في علوم المعلومات الجغرافية GIS والبيئة أن" الخدمة غير المنظمة وطرق النقل غير الكفوءة تؤثر سلبًا على حياة المواطنين، فتعيق وصولهم إلى أماكن عملهم وإلى الخدمات الأساسية. وبسبب عدم وجود مواعيد واضحة، يضطر الركاب إلى انتظار امتلاء الباص قبل انطلاقه، مما يهدر الكثير من الوقت"، مضيفا أنه "كثيرًا ما تتوقف بعض خدمات النقل في المساء (أحيانًا حتى انطلاقا من الساعة 5 مساءً)، ما يترك الكثيرين بخيارات محدودة للتنقل بأسعار مقبولة.


من جهته، قال المتحدث باسم وزارة النقل العراقية، ميثم الصافي، في تصريح لوكالة الأنباء العراقية (واع) خلال الشهر الجاري: "أن الوزارة مستمرة في تنفيذ خططها لتطوير منظومة النقل العام في بغداد والمحافظات، وقد أعلنت استكمال الحزمة الأولى من مشروع النقل الجماعي من خلال افتتاح 43 خطًا في بغداد". وأضاف " أن الأيام المقبلة ستشهد إطلاق الحزمة الثانية من المشروع، والتي ستتضمن استكمال الخطوط ليكون المجموع الكلي في بغداد 72 خطا."

وأشار الصافي كذلك إلى أن الوزارة تعمل على تطوير مسارات النقل الجماعي في بغداد، من خلال إنشاء مظلات انتظار حديثة في جانبي الرصافة والكرخ.

بالرغم من الجهود المبذولة لتطوير منظومة النقل العام في بغداد، إلا أن التحديات لا تزال كبيرة، فخطوط النقل الجديدة التي سيتم بعثها، وإن كانت تمثل خطوةً إيجابية، إلا أنها لا تغطي كافة مناطق العاصمة، ولا تلبي احتياجات جميع المواطنين

فالكثير من المناطق، خاصةً في الأطراف، لا تزال تفتقر إلى خدمات النقل العام الفعالة، مما يجبر السكان على الاعتماد على وسائل النقل الخاصة باهظة الثمن أو سيارات الأجرة (الكيات) غير المنظمة. كما أن توقف خطوط النقل في وقت مبكر من المساء، عادةً حوالي الساعة الخامسة، يشكل عائقًا كبيرًا أمام الكثير من العاملين في مختلف المهن الذين ينتهي دوامهم في وقت متأخر، مما يجبرهم على البحث عن بدائل أخرى قد تكون غير آمنة أو مكلفة.


تطبيقات التاكسي هل هي الحل الأمثل؟


عدم توفر وسائل النقل بالعدد الكافي والخوف من المضايقات في الشوارع في المساء، يضطران عددا كبيرا من النساء إلى الإعتماد أكثر فأكثر على تطبيقات طلب السيارات. هذا ما يؤكده مجتبى محمد، 36 عامًا وهو سائق سيارة أجرة يعمل مع أحد تطبيقات التاكسي في بغداد، حيث يقول:


"خلال فترة عملي لاحظت ازديادًا ملحوظًا في عدد النساء اللاتي يستخدمن التطبيق، خاصةً في المساء"، مضيفا أن "الكثير منهن يعملن في مناطق بعيدة عن منازلهن، وينتهي دوامهن في أوقات متأخرة، حيث تكون وسائل النقل العام محدودة أو غير موجودة أصلًا، لذلك يضطررن إلى طلب سيارات الأجرة عبر التطبيقات كبديل آمن ومريح، يتيح لهن تجنب مخاطر ركوب سيارات الأجرة الجماعية أو الوقوف في الشوارع المظلمة في انتظار وسيلة مواصلات."


ويشير إلى أن تطبيقات التاكسي ساهمت، حسب رأيه، في توفير نقل آمن ومريح للعوائل والنساء خصوصًا مع قدرة العائلة على الاطلاع على تفاصيل السائق ونوع ورقم السيارة. ويتمنى أن " تساهم هذه التطبيقات في تحسين واقع النقل العام في المدينة وأن تكون مراقبة من قبل الجهات الرسمية كما في الكثير من الدول المتقدمة، حيث تتوفر كاميرات مراقبة داخل سيارة الأجرة والعديد من المميزات الآخرى."

من جانبها، تقول سارة جاسم، وهي مدافعة عن حقوق الإنسان، أن " تحقيق الأمان للنساء في شوارع بغداد خلال المساء يمثل تحديًا كبيرًا، خاصةً مع ندرة وسائل النقل العام وقلة الإنارة في بعض المناطق". وتضيف أن "العديد من النساء يتجنبن التنقل في ساعات الليل خوفًا من التعرض للتحرش أو المضايقات، مما يجعلهن يشعرن بعدم الأمان ويقيد حريتهن. للأسف، ظاهرة التحرش منتشرة بشكل مقلق، سواء في وسائل النقل العام أو حتى في سيارات الأجرة الخاصة. وانتشار مقاطع فيديو توثق هذه الانتهاكات يعكس حجم المشكلة ويؤكد أن التحرش ظاهرة تحتاج إلى تدخل جاد."


وتشير جاسم إلى أن "هذه المشكلة تؤدي إلى تقليص حركة النساء، مما ينعكس سلبًا على حياتهن اليومية، حيث أن العديد منهن يضطررن إلى الحد من ساعات عملهن أو رفض فرص وظيفية تتطلب التنقل في أوقات متأخرة، وهذا يقلل من مشاركتهن في الأنشطة العامة والمهنية، ويحد من إمكانياتهن في تحقيق استقلالهن المادي والمهني."

ومن ناحية أخرى، تبرز المدافعة عن حقوق الإنسان أن "الخوف المستمر من التنقل ليلًا والقلق من التعرض للمضايقات يؤثران بشكل كبير على الصحة النفسية للنساء، خاصة مع تزايد الإحساس بالتوتر والقلق المستمرين، وقد يتطور ذلك إلى مشاكل أكبر مثل الاكتئاب واضطرابات النوم، كما أن الشعور بعدم الأمان يخلق بيئة سلبية تؤثر على ثقة النساء بأنفسهن وبالمجتمع."

وتقدم جاسم مجموعة من التوصيات لتحسين أمان النساء في بغداد، مثل "ضرورة تعزيز وجود دوريات أمنية في الشوارع والأسواق خلال المساء، وتحسين خدمات النقل العام لتكون متاحة وآمنة على مدار الساعة، وفرض عقوبات صارمة على المتحرشين، ونشر الوعي حول قوانين مكافحة التحرش، وتشجيع المبادرات المحلية التي توفر خدمات نقل آمنة للنساء، وتقديم دعم نفسي واجتماعي للنساء اللاتي يتعرضن للمضايقات."



لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)


٣٥ مشاهدة٠ تعليق

Comments


Follow Us !

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter

Thanks for submitting!

فتيات ضحايا لهيمنة العادات بمستقبل مجهول.png
bottom of page