top of page

صورة العراق في الإعلام الغربي: ألم يحن الوقت لإبراز شيء آخر عدا الحرب؟


حين يُذكر اسم العراق في الإعلام الغربي، تتداعى فورًا صور الدخان، والانفجارات، والخراب، والجنود وسط المدن المدمّرة.


فمنذ عقود، وبفعل الحروب المتتالية والاحتلال الأمريكي، ترسخت في الذهنية العالمية صورة نمطية تختزل هذا البلد العريق في مشهد دائم من العنف والدمار. وساهمت السينما العالمية والنشرات الإخبارية في ترسيخ هذه الصورة الأحادية، متجاهلة إرثًا حضاريًا يمتد لآلاف السنين، وشعبًا نابضًا بالحياة يصرّ على النهوض من تحت الركام.

اليوم، وبعد أكثر من عقدين على التغيرات الكبرى التي عصفت بالبلاد، بدأ العراق يشق طريقه نحو الاستقرار والانفتاح. تشهد المدن العراقية حراكًا ثقافيًا وسياحيًا متزايدًا، وتبذل الحكومة والمجتمع المدني جهودًا حثيثة لإعادة تقديم العراق بوجهه الحقيقي: بلد التاريخ العميق، والتنوع الثقافي، والضيافة الفريدة.

في هذا المقال، نحاول تفكيك أسباب الصورة السلبية للعراق في الإعلام الغربي، ونستعرض الجهود المبذولة – رسميًا وشعبيًا – لتغيير هذه السردية المختزَلة، واستعادة موقع العراق كوجهة حضارية وسياحية تستحق أن تُرى بعين جديدة.


ترسخ الصورة النمطية للعراق في الإعلام الغربي


منذ عقود، يلعب الإعلام الغربي دورًا محوريًا في تكوين الصورة الذهنية العالمية عن العراق، صورةٌ كثيرًا ما اختُزلت في مشاهد الدمار، والعمليات العسكرية، والتفجيرات، متجاهلة بذلك الأبعاد الإنسانية والثقافية والحضارية لهذا البلد. فبدلًا من تقديم العراق كدولة ذات تاريخ قديم وعريق وثقافة غنية، تم تصويره باستمرار كـ"أرض معركة"، لا تكاد تخلو من جنود، أو حروب أو لقطات أرشيفية مكررة لحرب الخليج أو الاحتلال الأمريكي.

عند تفكيك هذا الخطاب الإعلامي، فإننا نكشف عن نمط متكرر وهو ان العراق لا يُذكر إلا في سياق الأزمات، ولا يُرى إلا من زاوية أمنية. وفي البرامج الإخبارية الغربية، يندر أن نجد تقارير عن الحياة اليومية للعراقيين، أو عن مبادرات شبابية، أو مشاهد من الأسواق، أو المتاحف، أو الفعاليات الثقافية او حتى الحضارية التي تعكس عمق حضارة بلاد الرافدين، في حين نرى العكس في الاعلام الغربي حيث تتصدر مشاهد الرعب والعنف واجهة التغطية كلما ذُكر العراق

 يؤكد الدكتور عبد السلام أحمد السامر، أستاذ الإعلام في جامعة بغداد، هذا الطرح قائلاً في دراسته "أساليب الدعاية الأمريكية في العراق 2003": "الإعلام الغربي، وبشكل ممنهج، يسعى لتبسيط السردية العراقية إلى قالب واحد: الصراع والعنف. هذا التبسيط يخدم أجندات معينة، ويمنع تشكيل فهم أعمق وأكثر تعقيدًا للواقع العراقي." ويضيف السامر في سياقات أخرى "إن غياب القصص الإنسانية اليومية والمبادرات الإيجابية يخلق فراغًا معرفيًا يتم ملؤه بالصور النمطية السلبية."

أما السينما والمسلسلات الغربية، فقد ساهمت هي الأخرى في ترسيخ هذه الصورة النمطية. في عدد كبير من الأفلام الأمريكية مثل American Sniper أو The Hurt Locker، يظهر العراق كمسرح مفتوح للقتل، دون سياق تاريخي أو إنساني، بل غالبًا ما يتم تصويره كأرض "صراع" وعدائية لا ينتمي سكانها لأي ملامح واضحة سوى الخطر.

ولا يتوقف الأمر عند مشهد المدينة المدمرة، بل يتعداه إلى اختزال الشخصية العراقية نفسها في دور "العدو" العنيف، بدون أي تعقيد إنساني أو سردية بديلة. الشخصيات العراقية في هذه الأعمال لا تُمنح لا صوتًا ولا ملامح، بل تُقدَّم كعقبة في طريق البطل الغربي، وكتهديد يجب القضاء عليه.

وفقًا لبحث احد طلاب  كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، الطالب كارلو سنحاريب بعنوان "تمثلات الشخصية العراقية في أفلام الحرب على العراق التي أنتجتها هوليود"، والذي يُركز على تحليل هذه التمثيلات بعد عام 2003، فإن " نسبة كبيرة من الشخصيات العراقية المصورة كانت إما 'أشخاص سيئين" أو 'مسلحين' أو 'ضحايا سلبيين'." الدراسة أشارت إلى أن هذا التمثيل يساهم في "تجريد العراقيين من إنسانيتهم، ويبرر التدخلات العسكرية الغربية".

وإذا ما قارنا هذا التناول الإعلامي مع دول أخرى مرت بصراعات مشابهة، فإن الفارق يلفت النظر. ففي فيتنام، التي شهدت واحدة من أطول وأعنف الحروب في القرن العشرين، أصبحت تُقدَّم اليوم في الإعلام الغربي كوجهة سياحية خلابة، غنية بالثقافة والتقاليد، فيما تُعرض البوسنة كمثال على تجاوز الحرب والتعافي المجتمعي، مع التركيز على معالمها وطبيعتها ومجتمعاتها متعددة الأعراق. فلماذا يُمنح لتلك الدول حق "الشفاء الإعلامي"، بينما يُحرم العراق منه؟

نجد ان الاستثناء العراقي لا يمكن عزله عن البعد السياسي، ولا عن التصورات الاستعمارية القديمة التي ما تزال تنظر إلى الشرق الأوسط عموماً كمنطقة اضطراب دائم. في هذا السياق، تُنتج الصورة النمطية للعراق كجزء من سردية أوسع تُبقي على العراق في خانة "البلد المليء بالصراعات"، وتُقصي صوته الحقيقي عن رواية ذاته


مرحلة جديدة من التنمية والانفتاح  لابد من مواكبتها


رغم التركة الثقيلة التي خلفها الاحتلال والصراعات المتعاقبة، إلا أن العراق اليوم يشهد تحوّلًا تدريجيًا نحو الانفتاح والاستقرار، تحوّل لا يواكبه بالضرورة الإعلام الغربي في تغطيته. فعلى أرض الواقع، هناك مشاهد أخرى تتشكل: مهرجانات فنية ودينية، مبادرات ثقافية، سياح أجانب يتجولون في شوارع بغداد وأزقة المدن العراقية، ومواطنون يعيدون ترميم ذاكرتهم الوطنية حجرًا بعد حجر. فهذه ليست محاولات تجميلية، بل مؤشرات فعلية على أن العراق يتنفس من جديد

من أبرز المحطات التي ساهمت في كسر الصورة النمطية المظلمة كانت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق في مارس 2021. تلك الزيارة التاريخية، الأولى من نوعها، حملت رمزية كبرى ورسائل متعددة، منها أن العراق بات مستعدًا لاستقبال العالم، وأنه ليس بلدًا منغلقًا على ماضيه، بل منفتح على حوار الأديان والتعايش السلمي. وأظهرت الصور التي نقلها الإعلام العالمي آنذاك مشاهد لم نعتد رؤيتها في الإعلام الغربي عن العراق منها لقاءات بين الطوائف، ترحيب شعبي، ومواقع دينية وتاريخية تنبض بالحياة

الحكومة العراقية كذلك بدأت تتخذ خطوات عملية لتعزيز السياحة والانفتاح الدولي، من خلال تسهيلات تأشيرة الدخول للسياح الأجانب، وحملات ترويجية، وتعاون مع مؤثرين أجانب لتوثيق تجاربهم داخل العراق. هذه المبادرات لم تأتِ من فراغ، بل تعكس رغبة رسمية وشعبية في استعادة العراق لمكانته الطبيعية كوجهة ثقافية وسياحية ذات عمق حضاري وإنساني

ولا يمكن تجاهل دور المجتمع المدني العراقي في هذا الحراك. فهناك موجة ناشئة من المثقفين، والمصورين، وصناع المحتوى الذين يسعون لكسر القوالب النمطية الجاهزة عن العراق، عبر نقل مشاهد الحياة اليومية، والجمال الطبيعي، والقصص الإنسانية من داخل المدن العراقية. فهؤلاء لا يطلبون من الغرب أن يُجامل العراق، بل أن يراه كما هو بلد يحاول النهوض رغم كل شيء، ويستحق أن يُروى بصوته، لا بصوت من يتحدث عنه من الخارج

المفارقة أن الكثير من هذه التحولات لا تحظى بتغطية إعلامية تليق بها، وكأن الإعلام الغربي لا يزال عالقًا في صورة العراق التي رسمها خلال الحرب، غير قادر – أو غير راغب – في الاعتراف بأن الزمن قد تغيّر، وأن ما يحدث في العراق اليوم لا يقل أهمية عن ما حدث فيه بالأمس


مسؤولية الإعلام العراقي والدولي في تغيير السردية


تغيير الصورة النمطية للعراق ليس مسؤولية الإعلام الغربي وحده، بل هو أيضًا تحدٍّ أمام الإعلام العراقي ومجتمع المثقفين وصناع المحتوى، الذين باتوا مطالبين اليوم بإنتاج سردية بديلة، لا تتجاهل الواقع، لكنها ترفض أن يُختزل بلد بأكمله في رماد الحرب فقط. لقد آن الأوان لأن يتحدث العراق عن نفسه، لا أن يُتَحدَّث عنه دائمًا. ففي الواقع، يُنتج العراق اليوم أدبًا وسينما وعلوم ومعارض فوتوغرافية تعبّر عن صوته الحقيقي، وتعيد رسم ملامحه من جديد. إلا أن هذه الجهود ما تزال متفرقة تحتاج الى أن تواكب ديناميكية الإعلام الرقمي وسرعة انتشاره عالميًا

وفي هذا السياق، تؤكد الكاتبة والباحثة العراقية، الدكتورة هناء عبد الرازق، وهي أكاديمية متخصصة في الدراسات الثقافية والإعلامية، ولها العديد من المؤلفات والأبحاث التي تتناول قضايا الهوية والثقافة والإعلام في السياق العراقي والعربي، على أهمية "استعادة الذات السردية للعراق"، كما ترى أن "الاستسلام للصور النمطية الخارجية هو شكل من أشكال التخلي عن القدرة على تعريف الذات. والإعلام العراقي، بكافة أشكاله، يمتلك مفتاح كسر هذه الدائرة من خلال تقديم صوت أصيل، يعكس تعقيدات الحياة اليومية، ويحتفي بالمنجزات الثقافية والحضارية التي غالبًا ما تُهمل في التغطيات الدولية."

في المقابل، يملك صانعو المحتوى الشباب، والمدوّنون، والمصورون والمثقفون فرصة ذهبية لتغيير هذه المعادلة. فيديو واحد يُظهر شوارع بغداد مساءً، أو مشهد من جنوب العراق أو وجبة في سوق شعبي بالنجف، قد يصل إلى جمهور عالمي واسع، ويحدث تأثيرًا أعمق من عشرات المقالات الإخبارية. لذلك، فإن تمكين الشباب في هذا المجال، وتوفير منصات داعمة، وتحفيز الإنتاج الثقافي المستقل، هو أمر بالغ الأهمية في معركة الصورة النمطية

أما على المستوى الدولي، فقد حان الوقت أن تتوقف المؤسسات الإعلامية الكبرى عن التعامل مع العراق كمجرد "قصة أزمة"، وأن تُراجع أدواتها ومنهجياتها في التغطية. هناك حاجة ملحة إلى تغطية أكثر توازنًا، تُنصت لما يحدث على الأرض فعلًا، وتتجاوز الروايات الجاهزة التي لا تزال تُنسخ منذ 2003 حتى اليوم.

في النهاية، لا يطلب العراق من الإعلام أن يُجمّل الواقع أو يروّج لنسخة زائفة عنه، بل أن يُنصفه، أن يقدّمه كما هو بلد فيه مشاكل، نعم، لكنه أيضًا بلد فيه حياة، وأمل، وإبداع، وناس يستحقون أن تُروى حكاياتهم بعيدًا عن صور الحرب.



لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

Comments


Follow Us !

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter

Thanks for submitting!

فتيات ضحايا لهيمنة العادات بمستقبل مجهول.png
bottom of page