البودكاست في العراق: صوت الشباب وصياغة المستقبل الرقمي
- فاطمة نعمة

- 30 سبتمبر
- 6 دقيقة قراءة

في مقهى صغير ببغداد، يجلس شاب يضع سماعاته ويتحدث بحماس إلى ميكروفون بسيط موصول بجهاز حاسوب. ما يسجّله ليس مجرد كلمات عابرة، بل محاولة لصناعة مساحة صوتية جديدة في بلد اعتاد أن تهيمن عليه قنوات الإعلام التقليدي. هكذا وُلدت حكايات البودكاست العراقي، كأداة حديثة للشباب للتواصل والتعبير ولرسم صورة مختلفة عن مجتمعهم وثقافتهم.
رغم الصعوبات التقنية وقلة الموارد، ورغم النظرة الاجتماعية المترددة أحيانًا، اختار جيل من البودكاستيين أن يواجهوا التحديات بالصوت، ليجعلوا من الميكروفون نافذة على قضاياهم وأفكارهم. عبر قصصهم، يتضح كيف أصبح الصوت العراقي حاضرًا في الفضاء الرقمي العالمي، وكيف تحوّل البودكاست من مجرد وسيلة تسلية إلى منصة لبناء الهوية وكسر الصور النمطية وربط العراق بالعالم.
فاليوم، لا يُنظر إلى البودكاست في العراق فقط كترفيه أو محتوى عابر، بل كحركة ناشئة تحمل طموحات الشباب ورسائلهم.
من نقاشات اجتماعية وثقافية إلى قضايا حرية التعبير والمساواة، باتت هذه المساحات الصوتية تعكس تنوّع التجارب العراقية وتبني جسورًا للحوار مع المستمعين داخل وخارج البلاد. وهنا تتشكل قصة جديدة: كيف استطاع العراقيون بأدوات بسيطة وروح إبداعية، أن يجعلوا من الصوت قوة للتغيير الثقافي والاجتماعي.
البودكاست كإعلام بديل في العراق
في بلد ما يزال الإعلام التقليدي مهيمنًا فيه، يجد الشباب العراقي أنفسهم أمام خيارات محدودة للتعبير عن أفكارهم بحرية. هنا يبرز البودكاست كبديل حديث يفتح مساحات جديدة أمامهم. تقول فرح لؤي، إحدى الشابات اللواتي بدأن مشروعهن الصوتي: "الإعلام التقليدي يتطلب لغة رسمية، علاقات واسعة، ومصاريف عالية، فضلًا عن كونه محكومًا بأجندات واضحة. بينما البودكاست منحني الحرية أن أتكلم بطريقتي وبالأفكار التي أؤمن بها، من دون معرقلات."
جويا عمر، منتجة ومدربة في البودكاست، تشارك الرأي ذاته: "اخترت البودكاست لأنه يمنحني حرية واسعة للتعبير عن أفكاري وآرائي بسهولة، بدون تعقيدات أو قيود. هو منصة شاملة ومفتوحة لكل الفئات، وتسمح أن توصل رأيك للآخرين بطريقة بسيطة ومباشرة." بالنسبة إليها، لم يعد البودكاست مجرد مساحة شخصية، بل وسيلة تواصل مجتمعي تُعطي صوتًا لمجموعات غالبًا ما تُهمّش، مثل النساء والصحفيات.
أما آية ضياء، صحفية وبودكاستر، فترى أن البودكاست يتجاوز كونه مساحة بديلة للشباب ليصبح جزءًا أساسيًا من التحول الإعلامي الرقمي عالميًا، وتقول: "البودكاست اليوم يمثل جزءًا مهمًا في التحول الإعلامي الرقمي وصار منافسًا شرسًا لما يقدمه التلفزيون. هو منصة فعالة جدًا وتواكب ما يدور رقميًا في الإعلام، ومن غير الصحيح أن نتأخر عن مواكبة هذه الحداثة." لكنها تعترف أن التجربة العراقية ما تزال في خطواتها الأولى، إذ وصل البودكاست متأخرًا إلى الجمهور المحلي، لكنه مع ذلك شكّل نافذة للشباب للتعبير عن آرائهم ونقد ما يجري في البلد والمجتمع.
وتضيف زينة مؤيد، بودكاستر في بغداد، منظورًا آخر يؤكد هذا الدور البديل للبودكاست، فتقول: "منصة البودكاست بدأ انتشارها في العراق تحديدًا قبل 3 سنوات في وقت فايروس كورونا. وحاليًا صارت فكرة البودكاست من مجرد تسجيل إلى صورة مرئية، وبرأيي أن البودكاست يجب أن يحتفظ بأصالته كونه صوتيًا أكثر، وهذا هو الشيء الذي دفعني لاختياره كمنصة شبابية للتفاعل.
" وترى أن البودكاست اليوم يمثل مساحة حرة للشباب العراقي، لأنه خالٍ من القيود، "أي شخص يكدر يفتح المايك ويسجل."
هذا الشعور بالحرية جعل البودكاست منصة أقرب للشباب، كونه يستخدم لغة بسيطة وقريبة منهم، بعيدًا عن الرسمية الجامدة. فبالنسبة إلى جيل يبحث عن فضاءات بديلة للتعبير بعيدًا عن الضغوط الاجتماعية والسياسية، صار البودكاست مكانًا آمنًا يتيح مشاركة الآراء والأفكار بلا خوف من الرقابة. وتضيف جويا أن "تنوع الأساليب وحرية اختيار المواضيع خلّى الشباب ينجذبون له أكثر من المنصات التقليدية."
ولا يقتصر هذا المحتوى على الترفيه فقط، بل يتسع ليشمل قضايا جادة ومغفلة من النقاش العام. فرح اختارت التركيز على البيئة والتكنولوجيا والاستدامة، وهي مواضيع ترى أنها "شبه غائبة" في النقاشات العراقية رغم أهميتها لمستقبل البلاد. بينما جويا تسعى إلى مناقشة قضايا تتعلق بمجتمعها وقوميتها، إلى جانب هموم المرأة ودور الصحفيات، مؤكدة أن وجود أصوات نسائية واثقة في الفضاء الرقمي يسهم في تغيير الصورة النمطية عن المرأة. من جهتها، تهتم آية بمحتوى يمس حياة الناس وتجاربهم، معتبرة أن وظيفة الإعلام الأساسية هي إحداث التغيير ودفع المجتمع إلى الأمام، حتى لو اقتصر الأمر على إثارة الجدل وكسر الصمت حول ما هو مسكوت عنه.
بهذه الطريقة، يتحول البودكاست إلى إعلام بديل قادر على سد فراغات تركها الإعلام التقليدي، وصناعة محتوى متصل بشكل مباشر بحياة الشباب وتطلعاتهم. ومن خلال قصص مثل فرح وجويا وآية وزينة، يتضح أن هذه المنصات ليست مجرد مساحة شخصية للتجريب، بل رافعة جديدة للتواصل الثقافي والاجتماعي، وأداة لإبراز قضايا ظلّت لعقود خارج دائرة الاهتمام العام.
التحديات التقنية والاجتماعية
رغم الحضور المتنامي للبودكاست في العراق، إلا أن الطريق أمام صُنّاعه لم يكن سهلًا. فالعقبات تبدأ من التفاصيل البسيطة التي قد تبدو بديهية في بلدان أخرى. تتذكر جويا بداياتها فتقول: "من أصعب التحديات كانت عدم معرفتي باستخدام المعدات. كانت المرة الأولى التي أتعامل فيها مع المايكروفون وأجهزة التسجيل والمونتاج. حتى معنى البودكاست الحقيقي لم يكن واضحا بالنسبة لي." بالنسبة لها، التدريب والدعم الذي حصلت عليه من منظمة AHJ كان حاسمًا في تجاوز هذه المرحلة.
فرح بدورها واجهت الصعوبات نفسها، خصوصًا في ظل غياب الموارد والدعم المالي، مشيرة إلى أن الإعلام التقليدي يتطلب تجهيزات مكلفة وشبكات علاقات واسعة، بينما دخلت عالم البودكاست بموارد محدودة ورغبة في التعبير فقط. أما آية، فترى أن "نقص المعدات وعدم توفر مكان مناسب للتسجيل أكبر عقبة أمام البودكاستيين العراقيين، لأن معظمهم يعمل بجهوده الخاصة وخارج أي مؤسسة إعلامية."
لكن التحديات لا تقتصر على التقنية. هناك أيضًا ما هو اجتماعي وثقافي. فالمجتمع العراقي ما زال في طور التعرّف على البودكاست كمنصة جادة. تقول آية: "الجمهور العراقي ذكي وناقد لاذع، لا يقتنع بسهولة بكل ما هو جديد. لكنه بدأ يتفاعل مع البودكاست بشكل إيجابي، رغم أن هناك من ما يزال يراه ثانويًا." فرح تضيف أن ما يميز البودكاست هو أنه منصة أقرب للشباب، لأنه يسمح لهم بالحديث بحرية وباللغة التي يفضلونها، بعيدًا عن الرسميات. أما جويا فتؤكد أن الشباب وجدوا فيه مساحة آمنة للتعبير بعيدًا عن الضغوط الاجتماعية والسياسية.
أما من الناحية الاقتصادية، فتبقى مسألة الاستدامة تحديًا بارزًا. تقول آية: "قلة الدعم المادي تمنع أحيانًا مواصلة العمل والإنتاج من الأساس. الحصول على رعاة أو داعمين يتطلب جهدًا إضافيًا لإقناعهم بجدوى البودكاست، وغالبًا يفضلون التعامل مع أصحاب الخبرة المسبقة."
وعلى الرغم من ذلك، لعبت مبادرات تدريبية مثل تلك التي أطلقتها منظمة المساعدات الانسانية والصحافة AHJ دورًا كبيرًا في توفير المعدات والخبرة والدعم اللوجستي، مما خفف من حدة هذه العقبات.
بهذا، يظهر أن التحديات التي يواجهها البودكاستيون العراقيون إذْ تتشابك القيود التقنية مع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك، يواصلون تسجيل حلقاتهم كفعل مقاومة ثقافية، مؤمنين بأن أصواتهم تستحق أن تُسمع، حتى وإن جاء الطريق مليئًا بالصعوبات.
كسر الصورة النمطية وبناء الجسور
إلى جانب دور البودكاست كمنصة للتعبير الحر، يبرز أثره في كسر الصور النمطية عن العراق وشبابه. فبدل الصورة السائدة التي تربط البلاد بالصراعات أو الأزمات، يعمل البودكاستيون الشباب على تقديم رواية مختلفة، ترتبط بالإبداع والتفكير النقدي والانفتاح. تقول فرح إن مشاركة النساء في صناعة المحتوى الصوتي له أثر مباشر في تغيير النظرة النمطية عن دور المرأة: "عندما يسمع الشباب أصواتًا نسائية واثقة تناقش قضايا معقدة مثل البيئة أو حرية التعبير، فهذا يغير تدريجيًا من فكرة المجتمع عن المرأة ويعطيها احترامًا أكبر ودورًا أوسع."
أما جويا، فترى أن البودكاست يشكل أداة لإيصال أصوات المهمشين، وخاصة النساء والصحفيات، إلى فضاء أوسع، معتبرة أن هذه التجارب تُظهر أن المرأة ليست مجرد متلقية، بل فاعلة ومؤثرة في النقاش العام. عبر هذا الحضور النسائي، يتشكل جسر جديد بين الجيل الشاب وقضايا المجتمع، قائم على الاعتراف بدور مختلف طالما تم تجاهله في الإعلام التقليدي.
من جانبها، تنظر آية إلى البودكاست بوصفه وسيلة لربط العراق بالعالم العربي والدولي، وتقول: "البودكاست يمثل جسرًا إعلاميًا وثقافيًا بين الشباب العراقي وباقي المجتمعات، ويساهم في ربط مجتمعنا بالمجتمعات الأخرى، خاصة العربية." وتضيف أن هذا الارتباط يتجاوز الحدود الجغرافية، إذ أن بعض الحلقات التي أنتجتها تمت متابعتها من جمهور دولي عبر منصات منظمة AHJ. بالنسبة لها، فإن هذا الحضور الرقمي يفتح المجال لتقارب ثقافي وحواري، ويضع الصوت العراقي في قلب الفضاء الإعلامي العالمي.
بهذا المعنى، لم يعد البودكاست مجرد وسيلة للتواصل المحلي، بل أداة لإعادة تقديم العراق للعالم، من خلال قصص شبابه وتجاربهم. ومن خلال محتوى يوازن بين المحلي والعالمي، وبين اليومي والإنساني، يسهم البودكاست في بناء صورة أكثر تنوعًا وعدلًا عن المجتمع العراقي، بعيدًا عن القوالب النمطية التي رافقته لسنوات.
رغم التحديات، شهدت الساحة الإعلامية العراقية ظهور عدد من البودكاستات التي تعكس تنوعًا ثقافيًا واجتماعيًا، وتقدم محتوى هادفًا يتناول قضايا المجتمع العراقي. من بين هذه البودكاستات:
بودكاست تجارب: يُركّز على سرد تجارب رواد الأعمال والمبدعين الشباب في العراق، مقدمًا محتوى قريب من الجمهور ويعكس نبض المجتمع.
IRAQI Podcast: يقدمه شخص مغترب، ويعرض مواقف ومفارقات وتجارب شخصية، مقدمًا محتوى حرًا ونقديًا يعكس وجهات نظر جديدة.
العراق بودكاست: يقدم حوارات وقصصًا من مختلف المدن العراقية، ويعرض تجارب ومواقف شخصية للشباب، ويعزز الوعي الثقافي والاجتماعي المحلي.
هذه المبادرات، رغم تنوعها، تعكس رغبة الشباب العراقي في التعبير عن أنفسهم ومشاركة تجاربهم، وتساهم في بناء مشهد إعلامي رقمي يعكس الواقع العراقي بصدق وموضوعية.
في ظل التحديات والقيود، أثبت البودكاست العراقي أنه أكثر من مجرد وسيلة إعلامية؛ إنه مساحة لإعادة تعريف الحوار الثقافي والاجتماعي. الشباب والنساء الذين اختاروا هذا الوسط لم يقتصروا على مشاركة أفكارهم وتجاربهم، بل صنعوا من أصواتهم أدوات للتأثير وإعادة النظر في القيم النمطية والمفاهيم المسبقة. البودكاست أصبح بذلك جسرًا يربط بين الأجيال المختلفة داخل العراق، وبين الشباب العراقي والعالم، مقدمًا تجربة متميزة للإعلام الحر، القريب من الناس والواقعي في طروحاته.
إن قوة هذه التجربة تكمن في بساطتها ومرونتها، في قدرتها على الوصول إلى مسامع من لم تصلهم الأصوات التقليدية، وفي كونها منصة يستطيع من خلالها كل صوت، مهما كان جديدًا أو مختلفًا، أن يجد مكانه ويترك أثره. بهذه الطريقة، لا يشكل البودكاست مجرد محتوى صوتي، بل تجربة تغييرية حقيقية، تعكس رغبة جيل كامل في المشاركة، الابتكار، وصياغة مستقبل إعلامي يعكس واقعهم وأحلامهم.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)






تعليقات