الإنجليزية في حياة الشباب العراقي: لغة فقط أم وسيلة للتمكين؟
- فاطمة نعمة

- 23 سبتمبر
- 4 دقيقة قراءة

في غرفة صغيرة بأحد أحياء بغداد المزدحمة، يجلس حيدر، شاب في الثانية والعشرين، على كرسي بلاستيكي أمام شاشة حاسوبه القديم. يضع سماعات الرأس، وعيناه تتابعان حركات شخصيته الافتراضية في لعبة جماعية على الإنترنت، بينما صوته يتنقل بسلاسة بين كلمات عربية وإنجليزية مع أصدقاء من كندا والهند والبرازيل. بالنسبة لحيدر، لم تعد هذه اللغة الأجنبية مجرد أداة للتفاهم مع الغرباء، بل صارت مفاتيح لعالم جديد، يمده بصداقات عابرة للحدود وفرص عملية لم يكن يتخيلها قبل سنوات قليلة.
قبل أن يدخل الإنترنت حياته، كانت الإنجليزية مادة مدرسية ثقيلة، تختبئ خلف دفاتر القواعد وجداول الأزمنة، وتُحفظ عن ظهر قلب ثم تُنسى مع نهاية الامتحان. اليوم، تحولت إلى مهارة حياتية تمنحه شعورًا بالثقة والانتماء لعالم أوسع من حدود مدينته.
حيدر ليس وحده. في المقاهي، وفي غرف النوم، وحتى بين الأزقة الشعبية، هناك جيل كامل من الشباب العراقيين يعيدون اكتشاف الإنجليزية بطريقتهم الخاصة. يتعلمونها من مقاطع الفيديو ومن الألعاب ومن المحادثات العفوية على منصات التواصل، بعيدًا عن قاعات الدراسة التقليدية. بالنسبة للبعض، هي وسيلة وأداة تمكين تمنحهم فرصًا تعليمية ووظيفية تفتح الأبواب المغلقة.
من حصص القواعد إلى دروس الإنترنت
رغم أن مادة اللغة الإنجليزية تُدرَّس في المدارس العراقية منذ المراحل المبكرة، فإن معظم الطلاب يتخرجون وهم عاجزون عن إجراء محادثة بسيطة. المناهج تقليدية، تركز على حفظ القواعد والمفردات، مع غياب شبه تام للتدريب على التحدث والاستماع. في كثير من الصفوف، يكون الامتحان هو الهدف الوحيد، لا إتقان اللغة. ووفق مؤشر EF العالمي لإجادة الإنجليزية لعام 2024، جاء العراق في المراتب الأخيرة، وهو ما يعكس الفجوة بين التعليم الرسمي واحتياجات الشباب في الواقع العملي.
لكن هذه الفجوة نفسها دفعت جيلًا كاملًا إلى البحث عن طرق بديلة. الإنترنت تحوّل إلى مدرسة بلا جدران، والمدرّسون الجدد أصبحوا منصات الفيديو وألعاب الأونلاين ومجموعات النقاش على مواقع التواصل. ألعاب مثل PUBG وCall of Duty، التي كان يُنظر إليها على أنها مضيعة للوقت، صارت بالنسبة لكثيرين بيئة يومية للتحدث بالإنجليزية مع لاعبين من كل أنحاء العالم.
سارة، طالبة جامعية في الموصل، تقول إنها تعلمت معظم لغتها من مشاهدة مسلسلات باللغة الإنجليزية بدون ترجمة، وتضيف: “في البداية كنت أكتب كل كلمة جديدة وأبحث عن معناها، ثم صرت أفهم الجمل كاملة من السياق. اليوم أستطيع التحدث بطلاقة، و أعمل كمترجمة حرة على الإنترنت”.
منصات مثل Duolingo وYouTube أصبحت أدوات يومية يتعامل معها الشباب بمرونة، بعيدًا عن التلقين الجاف في المدارس. وحتى المقاهي الشعبية في بغداد بدأت تشهد جلسات محادثة غير رسمية بين شباب يريدون ممارسة لغتهم، وكأنهم صنعوا لأنفسهم نظام تعليم موازٍ يواكب طموحاتهم، ويمنحهم شيئًا لم يحصلوا عليه من مقاعد الدراسة وهو الثقة في استخدام اللغة.
الأستاذ علي كريم، مدرس اللغة الإنجليزية في إحدى المدارس الثانوية في بغداد، يقول: "ألاحظ أن طلابي اليوم يتعاملون مع الإنجليزية خارج الصف أكثر مما يفعلونه داخله. الإنترنت والألعاب جعلوا اللغة جزءًا من حياتهم اليومية، وهذا يختلف كثيرًا عما كان عليه الأمر قبل عشر سنوات، حين كانت الإنجليزية مجرد كتاب مدرسي وحفظ قواعد."
اللغة بوابة للفرص
أحمد، شاب من البصرة، بدأ تعلم الإنجليزية عبر “البلاي ستيشن” والدردشة مع لاعبين من الخارج. اليوم يعمل كمصمم جرافيك حر على منصات مثل Upwork وFiverr، ويقول: “لم أكن أتخيل أن هوايتي ستوفر لي دخلاً ثابتًا بالدولار. اللغة هي السبب الأول في قدرتي على الوصول لهذه الفرص.”
الأمر لا يتوقف عند العمل الحر. فهناك من تمكن من الحصول على منح دراسية، أو فرص تدريب في شركات دولية، أو حتى السفر والمشاركة في مؤتمرات خارج العراق. بالنسبة لسارة، التي تعلمت الإنجليزية من الأفلام، كانت اللغة جواز سفرها إلى منحة في تركيا. “لم يكن الأمر يتعلق بالهروب من العراق، بل بفتح نافذة على العالم، وفهمه بطريقة أعمق”، تقول سارة.
هذه التحولات جعلت الإنجليزية بالنسبة لجيل كامل أداة تمكين شخصي واقتصادي، تمنحهم الاستقلالية والثقة في مواجهة سوق عمل تنافسي. ما بدأ كلعبة أو تسلية أصبح أساسًا لمشاريع صغيرة، وشركات ناشئة، وحتى مبادرات اجتماعية تهدف لتمكين الآخرين من التعلم.
تحديات ومستقبل اللغة في العراق
رغم قصص النجاح الملهمة، يواجه الشباب العراقي عقبات كبيرة في رحلة إتقان الإنجليزية. ضعف خدمة الإنترنت أو انقطاعها المتكرر يحول دون الاستفادة المستمرة من الموارد الإلكترونية، خاصة في المناطق الريفية. إضافة إلى ذلك، لا تزال الفجوة التعليمية بين المدن الكبرى والمحافظات النائية واضحة، فبينما يتمكن شباب بغداد أو أربيل من الوصول إلى دورات تدريبية ومراكز لغات، يضطر آخرون في مناطق أبعد للاعتماد على جهودهم الفردية فقط.
هناك أيضًا الحاجز المادي، فالدورات الاحترافية أو البرامج التعليمية المعتمدة غالبًا ما تكون بتكلفة لا تناسب دخل الشباب، مما يجعل التعلم الذاتي الخيار الأكثر شيوعًا. وحتى من يتقنون اللغة قد يواجهون تحديات اجتماعية، إذ ينظر بعض المحيطين بعين الريبة لمن يستخدم الإنجليزية في حديثه، معتبرين الأمر “استعراضًا” أو “تغريبًا”. هذه الضغوط تجعل رحلة إتقان اللغة ليست فقط مسألة تعليم، بل مواجهة ثقافية أحيانًا.
رغم هذه العقبات، تبدو مؤشرات المستقبل إيجابية. مع الانتشار السريع للهواتف الذكية، وازدياد توفر المحتوى التعليمي الرقمي، باتت الإنجليزية أقرب إلى أيدي الشباب من أي وقت مضى. خبراء التعليم يرون أن الجيل الحالي هو الأكثر قدرة على إتقان اللغة إذا تم دمج التكنولوجيا بفعالية في التعليم الرسمي، وفتح المجال أمام مبادرات شبابية لتبادل المهارات.
هناك توجه متزايد لدى المنظمات غير الحكومية ومراكز الشباب لفتح نوادٍ للمحادثة ودورات مجانية أو منخفضة التكلفة، بينما تتبنى بعض الجامعات فكرة إدخال المحتوى الرقمي التفاعلي في المناهج. في المقابل، يراهن الشباب أنفسهم على قدرتهم على تجاوز بطء النظام التعليمي، عبر الاعتماد على فضاء الإنترنت كمحرك أساسي للتعلم.
الإنجليزية في العراق لم تعد مجرد لغة أجنبية، بل أداة تفاوض مع المستقبل، بين من يستخدمها ويوظفها للتمكين، يبقى الخيط المشترك هو الإيمان بأنها مفتاح يفتح أبوابًا لم تكن متاحة من قبل، وأن إتقانها لم يعد ترفًا، بل ضرورة في عالم مترابط لا ينتظر المتأخرين.
في النهاية، تبدو اللغة الإنجليزية أكثر من مجرد كلمات وقواعد تُدرس في المدارس العراقية، بل هي رحلة يحكيها كل شاب وشابة بأحلامهم وتحدياتهم. هي قصة تحول من مادة دراسية تقليدية إلى أداة للتمكين والتواصل، من هامش واقع صعب إلى بوابة تفتح للعالم فرصًا جديدة.
شباب العراق الذين تعلموا الإنجليزية بأنفسهم عبر الشاشات والألعاب والفيديوهات، صنعوا لأنفسهم سلاحًا غير مرئي، يمنحهم الثقة والفرص، ويمنحهم صوتًا يتردد خارج حدود مدنهم. وبينما تظل التحديات قائمة، يبقى الأمل معقودًا على هذا الجيل الذي يثبت أن اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل جسر للفرص والتغيير، وجواز سفر نحو مستقبل أفضل ينتظر من يجرؤ على تعلمه والتحدث به.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)






تعليقات