"لا يمكن تخيل أن قضية أخلاقية يمكن الجدال حولها والتشكيك بها، لكنه أمر يحدث بشكل يومي في العراق، حتى صرنا نخشى الحديث ليس عن حقوقنا وحسب، بل عن حالات قتل النساء التي تحصل ثم ينقطع الحديث عنها بعد وقت قليل بسبب القمع" تقول الناشطة آلاء حسن.
مؤخرا اهتز المجتمع العراقي أمام الجريمة التي قام بها مهاجر عراقي في مركب كان ينوي التوجه إلى إيطاليا، فبعد غرق المركب وفيه ابنة هذا الأخير وزوجته، وأثناء انهماك الشرطة الايطالية بسحب بقايا الناجين، اقترب هذا الرجل من فتاة تبلغ من العمر 16 سنة ليغتصبها ويخنقها حتى الموت. رغم ذلك، تم التشكيك في هذه الحادثة المأساوية ومحاولة قلب الحقيقة، خاصة وأن الجاني "رجل".
نددت الناشطات النسويات في العراق والمدافعون/ت عن حقوق المرأة ببشاعة هذه الجريمة. ولكن في المقابل، تعرضن للهرسلة، والتكذيب، والاتهام بالانخراط في نظرية المؤامرة والعمالة لدول تنوي تسقيط الرجل العراقي وإظهاره على أنه الوحش.
"تكرهين الرجال العراقيين"، "تحاولين فضح ونشر الغسيل أمام العرب والأجانب"، "هذه هي سياسة النسويات لتحقيق الربح المادي"، تعليقات تتكرر على وسائل التواصل الإجتماعي وتُصاحب كل قضية مأساوية تتعلق بالنساء العراقيات وكانت آخرها حادثة المركب.
عادة يبدأ المناوؤون لحقوق المرأة بجذب الانتباه لفكرة جانبية تُمكّن من نسيان الحدث الرئيسي، والتوجه نحو الجدال حول نية الناقلين للخبر، والتركيز على اتهامهم بالعمالة من أجل تشتيت القضية وجعلها هامشية. في هذا الصدد، تُوضّح آلاء حسن، العاملة في مجال حقوق الإنسان، " أن الغريزة الذكورية الجماعية تجعل الرجال يحاولون حماية بعضهم البعض، كما يحدث كل مرة، وقد رأينا ذلك من خلال محاولات الدفاع عن العميد الذي تسربت له فيديوهات من داخل الحرم الجامعي في البصرة وهو يقوم بابتزاز طالبة جنسيًا ويمارس الجنس معها في داخل مكتب العمادة وشيخ الجامع الذي اغتصب عددا من الأطفال في الأنبار. هكذا ينتشر في المنصات سيل من التبريرات وخطابات للحث على التستر على هذه الانتهاكات من أجل الحفاظ على هيبة الرجل العراقي".
استر الرجل وافضح المرأة
"مهما تضخمت كوارث وأخطاء الذكر، يجب أن تبقى مستورة. يسترجع المبررون كل الأحاديث والآيات والأمثال في العرف الاجتماعي الداعية لستر الفضيحة، لكن الأمر يختلف بشكل مدهش لو كان الخطأ ارتكبته امرأة. هذا يُظهر كيف ينظر المجتمع لنا، نحن النساء". تقول آلاء، مضيفة "قيمتنا ليست مرتبطة بكوننا بشر طبيعيات، بل بصوننا لشرفنا وعفتنا. لذلك يعتقد الرجال أنه من الضروري بقاء الرقابة علينا".
على سبيل المثال، من يريد خطبة فتاة يسأل عن " أخلاقها ونظرة الناس لها" ولكن عندما يتقدم رجل للزواج بامرأة يتم الإهتمام فقط بعمله وليس بعلاقاته وتصرفاته لأنه يتم اعتبار أنها خاصة به، لكن "أخلاق وتصرفات المرأة خاصة بالمجتمع"، وهي مقيدة حسب قوانينه، توضح آلاء.
يرى الكثير من مناصري السلطة الذكورية والأبوية في العراق أنه من الواجب فضح المرأة إذ ما عملت أي شيء من منطلق قناعتها الشخصية، لأنها قد تضر بتوازن المجتمع المحكوم من قبل السلطة الدينية والعشائرية، مقابل السكوت عن أفعال وتصرفات الرجل، الذي، "لا يعيبه شيء".
في هذا الصدد، تُلفت آلاء أنه"في السوشيال ميديا، يتم الهجوم على المدونات والفاشنيستات، وصانعات المحتوى، بدءا من طريقة ارتداء الثياب والحديث حتى نوع المحتوى الذي يقدمنه، حيث تعرضت مؤخرا إحدى الانفلونسرز للهجوم، فقط لكونها رفعت يدها فظهر جانب من صدرها، الهجمة توسعت لتغدو ترندًا، مما جعل وزارة الداخلية تُصدر أمر اعتقال في حق الشابة بتهمة إخلالها بالذوق العام".
بالتوازي مع هذه الهجمات ضد النساء، تمت شيطنة فكرة "النسوية" وصار الاتهام جاهزا لكل من ينادي بالعدالة بين الجنسين. الكثير من المهاجمين للفكرة لا يعلمون حتى ماهيتها ومفاهيمها. تقول الباحثة في احدى المنظمات النسوية (سارة وليد/ إسم مستعار) أن الفكر الذكوري يميل غالبا لتسطيح حجم الجرائم بحق النساء، وجعلها متساوية مع تلك التي تحدث بحق الرجال. "يعمل أصحاب الفكر الذكوري على دعم فكرة أن العالم مليء بالجرائم، وأن ما يحصل للنساء في العراق ليس سوى حوادث تقع للجميع.
" من الصعب والمرهق أن تشرح لهم أن جرائم قتل النساء تحدث لكونهن نساء، ليس لكونهن أشخاص طبيعيين. هن يُقتلن بسبب هويتهن الجندرية والأعراف والقوانين الجائرة. لم نسمع إلى حد الآن أن رجلا تعرض للقتل من والده بسبب علاقة غرامية مع شابة بالسر!"، تقول سارة.
الأرقام المعلنة "مرعبة"
كشفت وزارة الداخلية عن تسجيل قرابة 14 ألف دعوى عنف أسري خلال الخمس أشهر الأولى من هذه السنة في عموم مناطق ومدن البلاد. وكان العنف الجسدي هو الاعلى بين هذه الدعاوي، حسب المحامي ستار عباس الذي يرى أن " نقص الاحصائيات المعنية بالجرائم ضد النساء، هو جزء من التواطؤ الحكومي، مما يساهم في ترهيبهن". وكانت آخر احصائية أقرتها المفوضية العليا لحقوق الإنسان أكدت وجود أكثر من 150 فتاة وامرأة تُقتل سنويا بسبب جرائم غسل العار، لكن هذا ما هو معلن، إلا أن الأرقام في الواقع، تكون مضاعفة لأنه يتم عادة تسجيل جرائم قتل النساء مثل الحرق، التماس الكهربائي، السقوط أو الانتحار،كحوادث عرضية. ويضيف عباس "العنف يتضخم تدريجيا، خاصة وأن لا دور لإيواء النساء المعنفات في بغداد سوى دار وحيدة تم افتتاحها قبل خمس سنوات فقط، وفي كوردستان هنالك دار في كل محافظة من الإقليم".
يشرع القانون العراقي، الكثير من التمييز ضد المرأة، حيث يأتي في المادة 41 من قانون العقوبات العراقي أنه "لا جريمة إذا وقع الفعل (الضرب) استعمالاً لحق مقرر بمقتضى القانون ويعتبر استعمالاً للحق، تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعاً أو قانوناً او عرفاً"، أي أن القانون يعطي الشرعية للتعنيف الأسري" يوضح المحامي ستار عباس.
العشيرة تشرّع للعنف
ترى الناشطة النسوية أريج ليلى، أن الفكر العشائري ساهم في تطور العنف الممارس على المرأة وارتفاع جرائم قتلها، إذ تعتمد مبادئه على أساس "ستر فضيحة الرجل" من أجل الحفاظ على سمعته. تؤمن العشيرة أن الرجل حتى وإن كان سيئا يجب أن تدعمه قبيلته، فتدفع المال لتفتدي قتله للآخرين، وتحتفي به عند قتله لامرأة من عائلته، حتى صار يعتقد جليا أن ما يفعله هو حق مكتسب.
"لا تحبذ العشيرة مواجهة المشاكل الذكورية وايجاد حلول لها، بل تفضل التكتّم عليها، لتساهم في تفاقمهما، كما أنها تُساهم في تغذية جزء من القوانين العراقية الظالمة ومنها قانون غسل العار الذي يعتبر قانون قبليا الغرض منه هو الحفاظ على "سمعة وصورة الرجل" أو مبدإ الفصلية التي تبيح تزويج الفتاة لأي شخص من قبيلة للعشيرة معها خلاف، أو زواج النهوة، حيث يُجبر ابن العم، قريباته على عدم الزواج، طالما هو غير مقتنع بذلك، أو يريد الزواج بواحدة منهن." توضح أريج.
وتختم أريج حديثها بأن " مؤيدي السلطة الأبوية والعشائرية يعملون على قمع كل صوت ناقد لها أو منددا بنتائجها الكارثية على المرأة وعلى المجتمع. في تويتر، كان هنالك جماعات منظمة للصد والهجوم على كل محاولة للحديث حول وضع المرأة أو المطالبة بتشريع قوانين منصفة لها أو تعديل النصوص القانونية الجائرة، كما طالت بعض الناشطات والناشطين حملات تحريض لتكميم أفواههم، وذلك في محاولة لتعويد المجتمع على السكوت أمام هذه الجرائم والتطبيع مع العنف المسلط على النساء".
ترهيب المدافعين عن حقوق المرأة
"كل فترة، نُفجع بجريمة جديدة ويصطدم الناس بالواقع المرير، لكن ماذا بعد؟" تتساءل آلاء وتضيف "ما حصل لطيبة الفتاة التي قتلها والدها بعد عودتها إلى العراق إثر سفرها إلى اسطنبول هربا من اغتصاب أخيها المستمر لها، كان مؤلما. وقتها، تظاهر الكثيرون، وطالبوا بتعديل القانون ثم انتهت القضية وعاد كل شيء كما كان، وحصلت بعدها جرائم أخرى".
تقوم المنظمة التي تشتغل بها ألاء باستبيان شهري داخل العديد من مناطق العراق، وتجد أن أكثر من عشر قضايا شرف تحدث في الشهر وتذهب ضحيتها نساء، ولكنها لا تصل للإعلام ولا يعلم عنها الجمهور شيئا. "حياة المرأة في خطر، حيث تتواصل معنا الكثير من النساء اللواتي يخبرننا باختفاء صديقاتهن فجأة وبدون مقدمات. نبحث عنهن ولا نجد أثرا لهن، ولا يتم التبليغ عن اختفائهن، كما تتجاهل الشرطة أحيانا قضايا كهذه خوفا من تهديدات العشيرة ونبقى في دائرة مفرغة يكون خلالها منقذنا الوحيد هو نشر القضايا على السوشيال ميديا، ثم نتعرض للقمع الالكتروني" تتأسف الناشطة المدنية.
أمام تواتر الهجمات وحملات التحريض على المدافعين/ات عن حقوق المرأة، بدأ الكثير من الناشطين والناشطات الابتعاد عن هذا المجال في العراق بسبب ضيق مساحة الحرية. في هذا الصدد، توضح آلاء أن بعضهم بدأ فعليا بتغيير خطابه -لحماية نفسه- وهناك من أصبح يحاول التقرب إلى الفكر الذكوري، فيما قرر البعض الآخر السكوت، ولم يبق سوى القلة القليلة ممن يدافعون بشكل حقيقي عن قضايا المرأة.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comentarios