في العراق، حيث لا تزال المرأة تواجه تحديات مجتمعية كبيرة، أصبحت التكنولوجيا مجالًا واعدًا لمواجهة التحديات وتوسيع دائرة المشاركة النسائية في الاقتصاد. ورغم أن نسبة النساء في القوى العاملة العراقية لا تتعدى 15% وفق تقارير منظمة العمل الدولية لعام 2023، فإن دخول المرأة مجالات التكنولوجيا يشهد تصاعدًا ملحوظًا، مع قصص نجاح تلهم المزيد من النساء لخوض هذا المضمار. قصص مثل تجربة المهندسة الميكاترونية مريم الحديثي، التي استفادت من مساحات التصنيع التكنولوجية لتطوير مشاريع مستدامة، والمصممة الجرافيكية تقى الرماحي، التي فتحت لها التكنولوجيا والعمل عن بُعد آفاقًا جديدة، ورائدة الأعمال زينب الجاف، التي أسست شركتها الناشئة "بونليلي"، تُظهر كيف يمكن للمرأة العراقية أن تصبح قوة دافعة للتغيير الرقمي والاقتصادي.
هل التحول الرقمي يمثل فرصا جديدة؟
يشكل التحول الرقمي فرصة استثنائية للنساء العراقيات لكسر الحواجز التقليدية والانخراط في مجالات جديدة تعزز من مساهمتهن الاقتصادية. المهندسة مريم الحديثي، التي تعمل في مساحات التصنيع التكنولوجية، ترى في هذه المساحات منصة حيوية لتطوير مهاراتها في الهندسة الميكاترونية.
تقول مريم: "مساحات التصنيع التكنولوجية وفرت لي بيئة مرنة ومفتوحة للاستكشاف والتجربة، حيث تمكنت من استخدام أدوات متقدمة مثل الطابعات ثلاثية الأبعاد وأجهزة التحكم الرقمي CNC.
هذه الأدوات سمحت لي بتطبيق معرفتي الهندسية عمليًا على مشاريع حقيقية، مما عزز من قدراتي في تصميم وتصنيع الأنظمة الميكاترونيكية." كما تشير إلى أن التكنولوجيا ليست مجرد أدوات، بل وسيلة لتعزيز الاستدامة من خلال مشاريع تركز على تقليل النفايات وتصنيع منتجات صديقة للبيئة.
أما بالنسبة لـتقى الرماحي، فقد كان التحول الرقمي والعمل عن بُعد بمثابة تغيير جذري في حياتها المهنية، حيث تقول: "بالنسبة لي، العمل عن بُعد في مجال مثل مجالي كان محض أحلام يقظة"، مضيفة أن جائحة كوفيد 2020 كانت نقطة تحول ساعدتها على الانتقال إلى نظام عمل مرن وأكثر إنتاجية.
عملت تقى على تحسين دخلها عبر الإنترنت من خلال منصات مثل LinkedIn وBehance، مستفيدة من الأدوات الرقمية التي قللت من التكاليف وزادت من الكفاءة.
وتشير إلى أن التكنولوجيا لم تسهم فقط في تحسين ظروف العمل، بل أيضًا في رفع وعي الشركات بأهمية الصناعات الإبداعية حتى في أصعب الظروف.
أما رائدة الأعمال زينب الجاف، فقد وجدت في التحول الرقمي فرصة لتحويل فكرتها إلى مشروع ريادي ناجح، حيث تقول "في عام 2020، أدركت أن العالم لن يكون كما كان من قبل، وأن الوقت قد حان للتحول الرقمي في العراق." انطلاقًا من هذا الوعي، أسست شركتها الناشئة "بونليلي"، وهي منصة للتجارة الإلكترونية تسعى لسد الفجوة في السوق العراقية، مع التركيز على تقديم منتجات أصلية وخدمات موثوقة. وتضيف: "التكنولوجيا لم تكن مجرد وسيلة لإنجاح مشروعنا، بل كانت أداة لخلق فرص جديدة للشباب العراقيين وللنساء الراغبات في دخول مجال التجارة الإلكترونية."
تُظهر هذه التجارب المتنوعة كيف أن التحول الرقمي ليس مجرد توجه عالمي، بل فرصة محلية ملموسة لإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والاجتماعي في العراق. هكذا تمهد التكنولوجيا الطريق لجيل جديد من النساء العراقيات القادرات على تجاوز التحديات وبناء مستقبل أكثر إشراقًا.
التحول الرقمي ليس مجرد توجه عالمي، بل فرصة محلية ملموسة لإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والاجتماعي في العراق. هكذا تمهد التكنولوجيا الطريق لجيل جديد من النساء العراقيات القادرات على تجاوز التحديات وبناء مستقبل أكثر إشراقًا.
التحديات في عالم مليئ بالرجال
رغم التقدم الذي أحرزته النساء في المجالات التقنية، إلا أنهن ما زلن يواجهن تحديات كبيرة، على المستويين الإجتماعي والمهني، نتيجة للهيمنة الذكورية في العديد من هذه الصناعات، مما يستلزم منهن إصرارًا وجهدًا مضاعفًا لتجاوزها.
تروي مريم الحديثي تجربتها في بيئات العمل التي تهيمن عليها القوى العاملة الذكورية، قائلة: "في العديد من المواقف، كنت أجد نفسي واحدة من بين قلة من النساء في بيئات العمل، مما جعلني أحتاج إلى إثبات نفسي بشكل مضاعف، خاصة في النقاشات الفنية والقرارات التقنية التي غالبًا ما تكون مشحونة بالصراعات." هذه التجربة تعكس صعوبة الانخراط في مجال يتطلب منها أن تتحدى الصور النمطية المرتبطة بدور المرأة في التكنولوجيا، وتثبت جدراتها وسط قلة من النساء في هذا المجال.
أما تقى الرماحي فقد واجهت تحديات مهنية واجتماعية بسبب كونها امرأة تعمل بشكل مستقل، حيث تقول: "من أصعب التحديات كانت فجوة الرواتب، حيث كنت دومًا أتقاضى أجرا أقل بسبب كوني امرأة غير متزوجة مقارنة مع زملائي المتزوجين وأصحاب الأسر." وتضيف أنها في بيئة العمل التقليدية كانت تشعر دائمًا بأن هناك تمييزا لفائدة الزملاء من الذكور لا يأخذ بعين الإعتبار الكفاءة والإنتاجية، مما دفعها إلى مغادرة العمل التقليدي والانتقال للعمل الحر الذي ساعدها على الاستقلال ماليًا رغم التحديات الاجتماعية التي واجهتها.
في حين تشير زينب الجاف إلى أن الصور النمطية تجاه المرأة في هذا المجال تعرقل تقدمها وتحد من فرصها.
"يميل المستثمرون، الذين هم في الغالب من الذكور، إلى تفضيل المشاريع التي يقودها رجال. وهذا يجبر النساء أحيانًا على التخلي عن مشاريعهن، نظرا لقلة التمويل المتاح للشركات الناشئة التي تقودها المرأة في العراق"
وتضيف " كان علينا أن نعمل بشكل مضاعف، لبناء بيانات وأرقام لإقناع المستثمرين. وبالفعل، تمكنا من أن نكون ثاني شركة ناشئة تحصل على استثمار في العراق." هذه التجربة تعكس الحواجز الكبيرة التي تواجهها النساء في مجال ريادة الأعمال، خاصة في بيئات تفتقر إلى الدعم المناسب للابتكارات النسائية.
لكن بالرغم من هذه التحديات، ساعدت شبكات الدعم في التغلب على الصعوبات، كما قالت زينب: " كنا نشارك في الفعاليات والندوات، و نبذل جهدًا كبيرًا لنعكس وجودنا ونثبت أننا منافسون جادون في السوق، ولسنا مجرد "ترند" أو شيء مؤقت."
نجاحات ملهمة
رغم التحديات الكبيرة التي تواجه العراق والعراقيات، والظروف الاستثنائية التي مر بها البلد في السنوات الأخيرة، لم تمنع هذه المصاعب النساء المبدعات والمبتكرات من استغلال التكنولوجيا والمضي قدمًا نحو النجاح. قصصهن ليست مجرد أمثلة على تحقيق الذات، بل هي شهادة على الإرادة القوية والإبداع في مواجهة العقبات.
المهندسة مريم الحديثي، التي تعمل في مساحات التصنيع التكنولوجية، تعتبر هذه المساحات أكثر من مجرد بيئة عمل؛ فهي مساحة للتعلم، التطوير، والإبداع. وتصف مريم هذه المساحات بأنها تقدم فرصًا فريدة للنساء: "توفر بيئة داعمة وشاملة تمكن النساء من ممارسة مهاراتهن في التكنولوجيا والهندسة، والمشاركة في ورش العمل، والإشتغال على مشاريع مبتكرة بعيدًا عن القيود التقليدية."
أما تقى الرماحي، مصممة الجرافيك التي حققت إنجازات بارزة في مجال التصميم، فهي ترى أن النجاح لا يأتي دون مواجهة التحديات. على الصعيد المهني، تعتبر تصميمها لمشاريع كبرى مثل إعادة تصميم المشروع الوطني للإنترنت وتصميم العلامة التجارية لمنصة "شبابيك" من أبرز محطات نجاحها. وتؤكد تقى أن بناء سمعة قوية في العمل الحر يتطلب المثابرة والتواصل المباشر مع العملاء: "كان عليّ أن أكون قاسية على نفسي، وأشرح للعملاء أدق التفاصيل لأجعلهم يدركون قيمة العمل الإبداعي. الأمر لم يكن سهلاً، لكنه كان ضرورياً لبناء الثقة وتحقيق التميز."
بالانتقال إلى مجال ريادة الأعمال، تسلط زينب الجاف الضوء على التحديات التي واجهتها خلال تأسيس شركتها الناشئة "بونليلي". أكبر عقبة كانت الحصول على استثمار، وهو تحدٍ تواجهه النساء بشكل خاص في سوق مثل العراق. تقول زينب:
"الدخول إلى سوق ناشئ يتطلب الشجاعة وعدم الخوف. عليك بناء عقلية صلبة تتحمل الفشل، خاصة عندما تكون التوقعات منخفضة بالنسبة للنساء في مجال الأعمال."
ومع ذلك، استطاعت زينب تحويل الفشل إلى دافع، حيث جعلتها التحديات أكثر إصرارًا على النجاح.
أهمية التمثيل النسائي في التكنولوجيا
إن التمثيل النسائي في مجال التكنولوجيا ليس فقط ضروريًا لتحقيق التوازن بين الجنسين، بل يلعب دورًا حيويًا في تعزيز الابتكار وتحقيق التنمية المستدامة. تقول المهندسة مريم الحديثي "المرأة تأتي بمنظور مختلف، ووجودها في فرق العمل يساعد على تنوع الأفكار، مما يعزز الإبداع. والابتكار لا يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على الطريقة التي نفكر بها لحل المشكلات." كما توصي بتوفير برامج تدريبية موجهة، وبيئات عمل مرنة، ومنصات دعم مهنية لتشجيع مشاركة النساء بشكل أكبر.
من جهة أخرى، تؤكد تقى الرماحي على أهمية مشاركة النساء في سوق العمل الحر وتأثيرها الإيجابي على المجتمع، حيث تقول: "زيادة مشاركة النساء تخفف من الثقل المادي على الجميع، مما يجعل المجتمع أقل توترًا وتعصبًا. العمل الحر يوفر للنساء فرصة لتحقيق توازن بين الحياة المهنية والعملية، خاصة في ظل التحديات المجتمعية." وترى أن مشاركة النساء في المجالات الإبداعية يغير النظرة التقليدية لدور المرأة في المجتمع، ويبرزها كفرد يُعتمد عليه ويساهم بفعالية في بناء مجتمع أقوى.
أما رائدة الأعمال زينب الجاف، فتؤكد على ضرورة تعزيز وجود النساء في ريادة الأعمال والتكنولوجيا، حيث ترى أن النساء قادرات على قيادة مشاريع صغيرة تخلق فرصًا جديدة وتضيف التنوع للاقتصاد العراقي. وتُبيّن أنه "على الرغم من قلة عدد النساء في ريادة الأعمال مقارنة بالرجال، إلا أن نجاحاتهن تلهم الأخريات لتحدي المعايير التقليدية. ومع الوقت، أتوقع زيادة اهتمام المستثمرين بدعم المشاريع النسائية، مما يفتح آفاقًا جديدة ويعزز الابتكار." كما تدعو إلى إنشاء شبكات دعم قوية للنساء وتبني مبادرات حكومية ومجتمعية لتوفير الموارد وتشجيعهن على تأسيس مشاريعهن الخاصة.
تظهر هذه الآراء أن التمثيل النسائي في التكنولوجيا ليس مجرد قضية تتعلق بالمساواة، بل هو عنصر أساسي لتطوير صناعة أكثر شمولًا وابتكارًا. دعم النساء في هذا المجال يعزز من إسهاماتهن الاقتصادية والاجتماعية، ويشكل خطوة نحو بناء مستقبل أفضل وأكثر توازنًا.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments