
في ظل التحولات السريعة التي يشهدها قطاع التعليم عالميًا، بدأت أنماط التعلم التقليدية تخضع لإعادة تشكيل تتماشى مع متطلبات العصر الرقمي. لم تعد الدراسة محصورة في قاعات المحاضرات أو زوايا المكتبات الهادئة، بل أصبحت الطالبات يبحثن عن بيئات أكثر مرونة وتحفيزًا تلبي احتياجاتهن الأكاديمية والمهنية.
في العراق، برزت مؤخرا مساحات العمل المشتركة كبديل حديث يساعد الطالبات على تجاوز تحديات الدراسة التقليدية، مثل ضيق المساحات في البيوت أو الانشغال بالمسائل العائلية. هذه البيئات توفر لهن فرصة للاندماج في مجتمعات أكاديمية تفاعلية، حيث يجتمع الإبداع مع التكنولوجيا، مما يفتح المجال أمام أساليب تعلم جديدة أكثر إنتاجية واستقلالية.
لكن هذا التحول لا يخلو من تحديات، منها المخاوف التي تتعلق بالأمان وإمكانية الوصول إلى هذه المساحات. ومع ذلك، فإن العديد من الطالبات استطعن تجاوز هذه العقبات وتحقيق إنجازات أكاديمية ومهنية بفضل هذه البيئات الداعمة.
البحث عن بدائل للمنزل والمكتبات الجامعية
لطالما كانت المنازل والمكتبات الجامعية هي الوجهة الأساسية للطالبات العراقيات عند التحضير للامتحانات أو إنجاز المشاريع الدراسية. ولكن في السنوات الأخيرة، بدأت أنماط الدراسة التقليدية تتغير، حيث أصبحت العديد من الطالبات يبحثن عن بدائل توفر بيئة أكثر راحة وإنتاجية، وهو ما دفعهن إلى التوجه نحو مساحات العمل المشتركة.
أحد الأسباب الرئيسية لهذا التحول هو قلة المكتبات الجامعية التي تقدم تسهيلات دراسية متكاملة، إذ تفتقر معظم الجامعات العراقية إلى أماكن مخصصة للدراسة الجماعية تكون مجهزة بخدمات الإنترنت وأدوات البحث الحديثة، كما أن ضوضاء البيوت والالتزامات العائلية تجعل الدراسة في المنزل تحديًا كبيرًا، مما دفع الكثير من الطالبات إلى البحث عن بيئات هادئة وأكثر احترافية للعمل.
زهراء، طالبة هندسة، واحدة منهن، حيث كانت تواجه صعوبة كبيرة في العمل على مشاريعها الهندسية بسبب عدم توفر مساحة عمل مناسبة في منزلها، أين تعيش مع أسرة كبيرة، كما أن مكتبة الجامعة لم تكن مجهزة بأجهزة الحاسوب والبرامج التي تحتاجها لإنجاز تصاميمها. بعد تجربة عدة أماكن، قررت الاشتراك في إحدى مساحات العمل المشتركة في بغداد، حيث وجدت بيئة مثالية،: قاعات هادئة للعمل الفردي والجماعي مزودة بأجهزة حاسوب متطورة وبرامج تصميم. عن هذه التجربة تقول:
"في البداية كنت مترددة، لكن بعد أول أسبوع في مساحة العمل شعرت بفرق هائل في إنتاجيتي. هنا أجد كل ما أحتاجه، من بيئة هادئة إلى أدوات تساعدني على إنجاز مشاريعي الهندسية دون انقطاع.".
هكذا وخلال عام واحد، استطاعت ز هراء تحسين إنتاجيتها وتوسيع شبكة علاقاتها، حتى أنها حصلت على فرصة تدريب في إحدى المؤسسات، بفضل زميلة التقتها في نفس المساحة.
رقية، طالبة في كلية الإعلام، اختارت هي أيضا التحول نحو مساحات العمل المشتركة. في السابق، كانت تعاني من مشكلة ضعف الإنترنت في منزلها، مما يجعل البحث عن مصادر المعلومات وإنجاز تقاريرها الصحفية أمرًا مرهقًا. بعد توصية من إحدى صديقاتها، بدأت بقضاء وقتها في إحدى مساحات العمل المشتركة، حيث تمكنت من الوصول إلى إنترنت سريع، وطابعات لطباعة مقالاتها، وقاعات خاصة للمناقشات الجماعية. الأجواء التعاونية هناك ساعدتها أيضًا في تطوير مهاراتها الصحفية، حيث التقت بعدد من الصحفيين الشباب الذين قدموا لها نصائح قيمة حول العمل الإعلامي.
"لم أكن أتخيل أن مجرد تغيير مكان الدراسة يمكن أن يكون له هذا التأثير على حياتي! في مساحة العمل، لا أنجز فقط مهامي بسرعة، بل أتعلم من أشخاص لديهم نفس اهتماماتي، وهو ما فتح لي أبوابًا جديدة في مجال الإعلام."، تؤكد رقية.
لماذا تعد خيارًا جذابًا؟
توفر مساحات العمل المشتركة مجموعة من المزايا التي جعلتها وجهة مفضلة للطالبات، ومن أبرزها:
مرونة الوقت: حيث يمكن للطالبات اختيار الأوقات التي تناسبهن، دون التقيد بساعات عمل المكتبات التقليدية.
بيئة محفزة للإنتاجية: تتميز هذه المساحات بتصميمها العصري، حيث الأجواء الهادئة والإضاءة المناسبة والمقاعد المريحة، مما يعزز التركيز ويقلل التشتت.
الموارد التقنية المتاحة: العديد من هذه المساحات توفر إنترنت عالي السرعة، قاعات اجتماعات، طابعات، وحتى أجهزة حاسوب حديثة، مما يسهل إنجاز الأبحاث والمشاريع.
بناء مجتمع أكاديمي داعم: العمل في هذه البيئات يتيح للطالبات فرصة التواصل مع زميلات يشاركنهن نفس الاهتمامات، مما يعزز التعاون وتبادل المعرفة.
في السنوات الأخيرة، أصبحت مساحات العمل المشتركة أكثر من مجرد أماكن للدراسة، بل بيئات داعمة للإبداع والتطوير الشخصي والمهني. العديد من الطالبات العراقيات وجدن في هذه المساحات فرصة لتحقيق إنجازات أكاديمية ومهنية لم تكن ممكنة في البيئات التقليدية.
بالنسبة لنور أسعد، طالبة، لا تمثل هذه المساحات مجرد مكان للعمل فحسب، بل ملاذا يُساعدها على التركيز واستعادة الطاقة، حيث تقول:
"عندما يُصبح العالم الخارجي مزعجا، أحب أن آتي إلى مساحة العمل حتى أشعر بالراحة والهدوء."
لا تقتصر فائدة مساحات العمل المشتركة على الطالبات فقط، بل تمتد لتشمل المهنيات والباحثات عن بيئات محفزة للإبداع. تقى رائد، إحدى المهندسات العاملات في قسم البرامج تشارك تجربتها قائلة: "كمهندسة برامج معلوماتية أحب أن ألتقي بالناس وهذا المكان مثالي بالنسبة إلي. أنا أعمل في قسم البرامج وأعقد معظم اجتماعاتي مع باقي الفريق في هذا المكان، الذي يمكننا من التواصل والعمل معا. أوصي به بشدة لأنه مساحة رائعة لإنجاز الأعمال وبناء العلاقات."
أي مستقبل لهذه المساحات ؟
مساحات العمل المشتركة ليست مجرد ظاهرة مؤقتة، بل قد تلعب دورًا رئيسيًا في تغيير الثقافة التعليمية في العراق خلال السنوات القادمة، فمن خلال توفير بيئات تعليمية حديثة تعتمد على التفاعل والتكنولوجيا، يمكن لهذه المساحات أن تكون عنصرًا أساسيًا في تطوير التعليم العالي ودعم ريادة الأعمال بين الشباب.
لم تعد مساحات العمل المشتركة مجرد بديل مؤقت عن المكتبات أو قاعات الدراسة، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من منظومة التعلم الحديثة، حيث توفر بيئة محفزة للإبداع والتطور الأكاديمي والمهني. ومع تزايد الإقبال عليها من قبل الطالبات العراقيات، يتضح أنها ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل خطوة نحو مستقبل تعليمي أكثر مرونة وابتكارًا. إن دعم هذه المساحات وتوسيع انتشارها يمكن أن يسهم في إحداث نقلة نوعية في الثقافة التعليمية في العراق، مما يجعلها ركيزة أساسية في تمكين الشباب وبناء جيل أكثر استقلالية وإبداعًا.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comentarios