لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتواصل والتعبير في العراق، بل أصبحت أسواقا افتراضية، بفضل جهود رائدات أعمال عراقيات حوّلن صفحاتهن على الفيسبوك وانستغرام إلى مشاريع تجارية مزدهرة.
سوف نسلط الضوء في هذا المقال على رحلة هؤلاء النساء، وعلى التحديات التي واجهتهن، وكيف استطعن تحقيق الاستقلالية المالية والمساهمة في نمو الاقتصاد المحلي، وتوفير فرص عمل لنساء أخريات، لتصل منتجاتهن لكافة محافظات العراق.
مشروع "لموند"
"لم أرغب يومًا أن يكون لي مدير، كنت أفضل دائمًا أن أكون صاحبة القرار، وأن أمتلك كياني الخاص الذي يساعد الآخرين"، تقول بفخر سارة عبد الخالق، 29 عامًا، صاحبة مشروع "لموند Le Monde " ، وهي تستذكر بداياتها المتواضعة وكيف تحول حلمها إلى واقعٍ ملموس.
"بدأت مشروع "لموند" بشغفٍ بسيط، مجرد صفحةٍ على انستغرام لشحن البضائع من دبي، ولكن إقبال الناس وتشجيعهم لي دفعاني للتوسع وإطلاق تطبيقٍ متكامل للشحن من مختلف الدول والتعامل مع علاماتٍ تجارية عالمية. لم يكن الأمر سهلاً بالطبع، واجهت تحدياتٍ كثيرة، خاصةً في إيجاد مكان مناسب لتوسيع المشروع وتلبية طلبات الزبائن المتزايدة. لكنني لم أستسلم، وبدلاً من البحث عن مكتب أكبر، قرّرت استغلال المساحة المتاحة لدي بطريقة مبتكرة." وتضيف سارة مبتسمةً: "أنشأت متجرا صغيراً داخل المكتب لأتيح الفرصة لرائدات الأعمال الأخريات لعرض منتجاتهن دون تحمل أعباء الإيجار والتشغيل، وبذلك أستطيع دعمهن وتوفير منصة جديدة لتسويق أعمالهن."
اختارت الشابة فيسبوك وانستغرام كمنصتين رئيسيتين لأنهما تتيحان لها الوصول إلى أكبر شريحةٍ من الجمهور في كافة محافظات العراق، وفي هذا الصدد تُوضّح: " السوشيال ميديا سهلت علينا الكثير من الأمور وساعدتنا على الانتشار السريع من خلال الإعلانات الممولة."
في بداية المشروع عام 2020، واجهت سارة صعوبة في إقناع الناس باستخدام التطبيق، فطريقة التسوق منذ سنوات كانت إما عن طريق زيارة المحل أو إرسال صورة للمنتج عبر صفحات السوشيال ميديا. " لكننا استمرينا في التطوير والتسويق، واليوم أعتقد أن تطبيق "لموند" أحدث نقلة نوعية في عالم التسوق الإلكتروني في العراق."
تنصح سارة رائدات الأعمال الطموحات بأن يبدأن بمشروعٍ يعبر عن شغفهن، " فأنا كنت مهووسةً بالتسوق والأزياء، ولذلك عرفت كيف أوصل مشروعي للناس بشكل مميز". ولكنها تؤكد على ضرورة الاستمرار في العمل لأن ذلك ضروري للنجاح، كما يجب أن يكون هناك قيمة مضافة للمشروع حتى يتميز في عالم وسائل التواصل الإجتماعي المزدحم."
لم تكن الشابة لتنجح لولا دعم العائلة والأصدقاء:، حيث تقول "الدعم المعنوي والكلمات الطيبة من الأهل والأصدقاء وحتى من الزبائن لها دور كبير في تحفيزي على مواصلة العمل. كلمة "شكرًا" بسيطة تعطيني الطاقة للاستيقاظ مبكرًا كل يوم والعودة للعمل بحماس."
تشاركنا سارة بعض الدروس التي تعلمتها من تجربتها: "لا تهملي التسويق أبدًا، حتى لو حقق مشروعك نجاحًا كبيرًا. كما أن إدارة الوقت ضرورية للموازنة بين العمل والحياة الشخصية. وأهم درس تعلمته هو أن أغتنم الفرص في الوقت المناسب."
واليوم لديها طموحٍ كبير: "أطمح أن يصبح "لموند" اسمًا معروفًا في كافة أنحاء العراق، وأن يكون لنا فروع في جميع المحافظات. نحن نعمل على تطوير التطبيق ليصبح أكثر شمولاً، ويضم مشاريع جديدة بالإضافة إلى فكرة التسوق الأساسية."
منصة "ركن" للتسوق
"بدأت رحلتي في عالم ريادة الأعمال عام 2019، وأنا طالبة في السنة الأولى من كلية الصيدلة"، تقول( العشرينية نور علي اسم مستعار) صاحبة مشروع "ركن" الذي يوفر أكثر من 1000 منتج متنوع، أدوات منزلية، ألعاب، أكسسوارات، أدوات ديكور وغيرها من المنتجات، وتضيف"لم أكن أحب تخصصي الدراسي، وكان لدي شغف كبير لبناء شيءٍ خاصٍ بي. بدأت بمشروعٍ صغيرٍ على انستغرام لتصميم الأحذية، ثم تطورت الفكرة لتصبح "ركن" علامةً مميزةً تلبي احتياجات السوق العراقي بأفكارٍ مبتكرة ومنتجاتٍ متنوعة غير متوفرة في أماكن أخرى."
لم تتخيل رائدة الأعمال الشابة أن ينمو مشروعها بهذه السرعة، حيث تقول "بدأنا أنا وشريكي من الصفر، وكنا نقوم بكل شيءٍ بأنفسنا، من التصوير والتصميم إلى التسويق وخدمة العملاء. تطلب الأمر وقتًا وجهدًا كبيرين، لكننا استطعنا تخطي كافة التحديات، وتحويل "ركن" من صفحةٍ على انستغرام إلى مجموعة فروعٍ منتشرة في بغداد."
لا تنكر أنها واجهت بعض الصعوبات في مسيرتها، مثل جائحة كورونا، إذ تراجعت المبيعات بشكلٍ ملحوظ خلال فترة الحجر. واجهت كذلك تحديات فيما يتعلق ببناء كادر عملٍ متخصص، خاصةً في مجال التصوير والتصميم. " لكنني تمكنت بفضل الله ثم بفضل إصراري وعزيمتي من تخطي هذه المرحلة، وتوزيع المهام على فريق عملٍ متميز."
تعبّر صاحبة "ركن" عن امتنانها لدعم عائلتها لها:"لم يعارض أهلي عملي في المشروع طالما أن دراستي لم تتأثر، وكان لشريكي دور أساسي في مساعدتي على موازنة حياتي الشخصية مع إدارة "ركن."
وتختم حديثها بثقة وتفاؤل: "طموحي أن يصبح "ركن" علامةً عراقيةً رائدةً في مجالها، وأن نتمكن من افتتاح فروعٍ في مختلف محافظات العراق. وأنا فخورةٌ بما حقّقناه حتى الآن حيث نملك عدة فروع في بغداد والنجف وكربلاء، وأؤمن بأن العمل الجاد والمثابرة سيوصلاننا إلى أهدافنا."
مشروع "الام إس جويس"
"شغفي بالعناية بالبشرة قادني إلى عالم ريادة الأعمال،" تقول ميناز مهند ٢٩ عامًا، صاحبة مشروع "إم إي جويس" لبيع منتجات العناية بالبشرة والشعر، مضيفة"بدأت بمشروعٍ صغيرٍ على انستغرام، أُقدم من خلاله نصائح لشراء المنتجات الأصلية. لكن انتشار المنتجات المقلدة في السوق دفعني للتفكير في حل مُختلف، فكانت فكرة "إم إي جويس" لتوفير منتجاتٍ أصلية وعالية الجودة."
لم تكن الشابة تملك رأس مالٍ للبدء، لكنها لم تستسلم. "اعتمدت على تجربة المنتجات بنفسي وتقديم استشارات خاصة للزبونات، وبدأتُ ببيع المنتجات بالدفع المؤجل"، تفسر ميناز، مضيفة " لقد كان ذلك تحديًا كبيرًا، لكنه علمني الكثير وزاد من ثقتي بنفسي."
لا تخفي ميناز الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في نجاح مشروعها، حيث اختارت انستغرام لأنه منصة سهلة الاستخدام ومتاحة للجميع، " وقد ساعدتني في بناء مجتمعٍ من النساء يثقنَ بـ "إم إي جويس" ويشاركن اهتماماتهن في مجال العناية بالبشرة والصحة."
وتشدد على أهمية الدعم في رحلة ريادة الأعمال: "الدعم الذي تلقيته من عائلتي، وخاصةً زوجي، كان له أثر كبير في نجاحي. لقد ساعدني في التغلب على التحديات وتحقيق التوازن بين إدارة المشروع وحياتي الشخصية." وتوجه نصيحة قيمة لرائدات الأعمال: "ابدأن بمشروعٍ تفهمنه ويكون قريبا إلى قلوبكن، ولا تقلدنَ غيركن، فالشغف والمعرفة هما أساس النجاح في أي مجال."
وتختم ميناز حديثها بكل ثقة: "أنا فخورة بما وصلت إليه مع "إم إي جويس"، وأحلم بتحويل مشروعي إلى مركز متكامل على أرض الواقع يقدم خدمات متنوعة للعناية بصحة المرأة، ويصبح وجهةً أساسيةً لكل امرأة تبحث عن الجمال والعافية".
حسن استعمال السوشيال ميديا مفتاح النجاح في ريادة الأعمال
يشهد قطاع التجارة الإلكترونية في العراق نموًا متسارعًا، مما يبشر بفرصٍ واعدة لرواد الأعمال، خاصةً أولئك الذين يوظفون وسائل التواصل الاجتماعي بذكاء. وتشير تقارير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية إلى أن هذا القطاع يشهد توسعًا ملحوظًا في العراق، مدفوعًا بزيادة إقبال المستهلكين على التسوق عبر الإنترنت وفرص النمو التي يتيحها هذا التوجه.
مُعلّقا على ظاهرة اعتماد العديد من النساء العراقيات على وسائل التواصل الإجتماعي لبعث المشاريع، يقول عباس نوري الخبير المتخصص في ريادة الأعمال:"شهدنا في السنوات الأخيرة تحولاً جذرياً في مشهد ريادة الأعمال في العراق، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها فيسبوك وانستغرام، منصات رئيسية لإطلاق المشاريع وتنميتها، حيث تعد هذه المنصات حاضناتٍ افتراضية فعالة تتيح لرواد الأعمال، وخاصةً النساء، فرصةً مثلى للدخول إلى عالم الأعمال بسهولة ومرونة، دون الحاجة إلى رأس مال كبير أو موقع فعلي." ويضيف " تساهم هذه الظاهرة في دفع عجلة الاقتصاد العراقي من خلال خلق فرص عمل جديدة، وتشجيع الإبداع والمنافسة، وتنويع مصادر الدخل، كما أنها تساهم في تمكين المرأة اقتصادياً واجتماعياً، وتعزيز دورها في التنمية المستدامة."
ويشير نوري إلى بعض التحديات التي تواجه رواد الأعمال الذين يعتمدون على السوشيال ميديا: "من أهم هذه التحديات هي المنافسة الشرسة، وضرورة التسويق المستمر والفعال، بالإضافة إلى صعوبة بناء الثقة مع العملاء في عالمٍ افتراضي."
ويختم حديثه بتقديم بعض النصائح لرواد الأعمال: "أنصحهم بالتركيز على جودة منتجاتهم أو خدماتهم، وتقديم قيمة مضافة للعملاء، بالإضافة إلى بناء علامةٍ تجارية قوية وموثوقة. كما أُشدد على أهمية التدريب المستمر واكتساب المعرفة، لتطوير مهاراتهم في مجال التسويق الإلكتروني وإدارة الأعمال."
من جهته يؤكد نور الدين محمد، خبير التسويق الرقمي، أنه "في عالم اليوم، تعد وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من مجرد منصات للتواصل، بل هي أدوات أساسية لبناء وتنمية المشاريع التجارية. لكن النجاح في هذا المجال يتطلب فهماً عميقاً لكيفية استخدام هذه المنصات بفعالية، ووضع استراتيجية ذكية تحقق الأهداف المرجوة." ويضيف "أنصح رواد الأعمال بداية بتحديد هوية جمهورهم المستهدف بدقة، فمعرفة من هو العميل المثالي تساعد على صياغة محتوى مناسب يلفت انتباهه، كما يجب أن يكون هذا المحتوى قيماً ومثيراً للاهتمام، سواء كان مقالات مفيدة، أو صورًا جذابة، أو فيديوهات مبتكرة. ولا يقتصر الأمر على نشر المحتوى فقط، بل يجب التفاعل مع الجمهور باستمرار، والرد على استفساراتهم، وخلق نقاشات بناءة. أنصح كذلك باستخدام الإعلانات المستهدفة لزيادة انتشار المشروع والوصول إلى شريحة واسعة من العملاء المحتملين". وأخيراً، يشدد محمد على أهمية تحليل البيانات ومتابعة النتائج باستمرار، فهذا " يساعد على تقييم الأداء وتحسين الاستراتيجية التسويقية بمرور الوقت."
تثبت تجارب سارة وميناز ورائدات الأعمال الأخريات، أن النجاح في عالم ريادة الأعمال يصبح ممكنًا عندما تستعمل المرأة العراقية الأدوات الرقمية بذكاء وشغف، وتُحوّل التحديات إلى فرص.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments