top of page

جيل بلا طفولة.. فتيات العراق بعد 22 عامًا على الحرب



مرت اثنتان وعشرون سنة على الغزو الذي أسس لدوامة من العنف والفوضى في العراق، إلا أن صداها لا يزال يتردد في أزقة المدن وفي نفوس العراقيين، وخاصة الفتيات اللواتي نشأن في خضم الصراع. تُسلّط هذه القصة الضوء على كيفية تأثير الحرب على طفولتهن، وتشكيلها لنظرتهن للحياة، والتحديات التي يواجهنها اليوم.


ذكريات أليمة لا تزال حاضرة


"الذاكرة تحتفظ بصور لا تمحى، ومشاهد العنف والفقد التي عايشناها في تلك الفترة لا تزال حاضرة بقوة في ذاكرتي"، هكذا بدأت شهلاء نوري (35 عامًا) من بغداد حديثها، مستعيدةً ذكريات سنوات الحرب وما تلاها في العراق. وتضيف بنبرة هادئة تحمل في طياتها حزنا عميقًا:

أتذكر جيدًا كيف تغيرت ملامح حياتنا اليومية، ففي عام 2006، وخلال توجهي الروتيني لتوصيل أخي الأصغر إلى مدرسته القريبة من بيتنا في منطقة السيدية ببغداد، وقبل أن أكمل طريقي إلى مدرستي التي تبعد بضعة شوارع، وقع أمام عيني حدث ما زال راسخًا في ذهني.

تتوقف شهلاء للحظة، ثم تسترسل في سرد تفاصيل تلك اللحظة الصادمة: "شاهدت سيارة مسرعة تطلق وابلاً من الرصاص على رجل كان يهم بركوب سيارته أمام منزله. وكانت المسافة بيني وبينه لا تتعدى أمتارا. رأيته يسقط أرضًا، والدماء تنزف منه بغزارة. كان مشهدًا مروعًا بقي يلاحقني في نومي حتى اليوم، لا أتذكر ما حصل بعدها سوى أنني ركضت باتجاه بيتنا بسرعة وكانت الدموع تملأ وجهي، هذا المشهد بكل تفاصيله المؤلمة، لا يزال حاضرًا في ذاكرتي رغم مرور السنوات."


وعن تأثير تلك الحقبة على عالمها كطفلة، تقول: "في تلك الفترة، فقدت الأماكن التي كانت مصدرًا للبهجة والأمان جاذبيتها. كنت أخشى الخروج إلى حديقة منزلنا، التي كانت في السابق مساحة حرة للعب والمرح لأن صوت الانفجارات وإطلاق النار خلق حاجزًا نفسيًا، وأصبح البقاء داخل جدران المنزل هو الخيار الأكثر أمانًا بالنسبة لي ولأخواتي. هذا الشعور بالأمان المقيد داخل المنزل استمر معي حتى اليوم." وتضيف "حتى ألعابنا تغيرت. لم تعد الدمى شخصيات في قصص خيالية سعيدة، بل أصبحت تُجسّد مخاوفنا وقلقنا. كنا نتخيل أنها تهرب أو تختبئ من أصوات الحرب. وتحوّل اللعب من وسيلة للترفيه إلى آلية للتعبير عن مشاعر الخوف ومحاولة فهم عالم بالغ قاسٍ."

تظهر إحصائيات موثقة حجم الخسائر المدنية الهائلة التي تكبدها العراق جراء أعمال العنف منذ عام 2003، مما يسلط الضوء على الثمن الباهظ الذي دفعه الأبرياء. ووفقًا لتقديرات مشروع إحصاء قتلى العراق، فقد قتل ما بين 184,089 و 206,793 مدنيًا نتيجة استخدام الأسلحة المتفجرة في الفترة الممتدة من عام 2003 إلى عام 2017."

وجاء كذلك في البيانات الصادرة عن  منظمة العمل ضد العنف المسلح (AOAV)  أنه بين عامي 2011 و 2018، سجّلت المنظمة مقتل وإصابة 71,231 شخصًا بسبب العنف المتفجر الذي تناولته وسائل الإعلام الإنجليزية، حيث كان 78% من هؤلاء الضحايا من المدنيين.وتكشف البيانات أيضًا عن الدور المدمر للعبوات الناسفة، التي كانت مسؤولة عن مصرع 89% من الضحايا المدنيين خلال الفترة المذكورة.


عالم اللعب كمرآة تعكس واقع الحرب


"لم يكن عالمنا الصغير، عالم الطفولة، معزولًا أبدًا عما يدور حولنا. كنا نرى ونسمع كل شيء، وكل ما كان يحدث في الشارع أو يظهر على شاشة التلفزيون كان ينعكس بطريقة أو بأخرى على لعبنا"، تقول دنيا عبد الكريم (29 عامًا) من بغداد، مسترجعة تفاصيل طفولتها قائلةً :

أتذكر جيدًا كيف كنا نقلد نقاط التفتيش التي نراها في كل مكان، حيث كنا نصفف ألعابنا على شكل سيارات، ونقوم بتفتيشها بجدية، تمامًا كما كنا نشاهد الجنود يفعلون. وكنا نطلب من بعضنا البعض إبراز 'الأوراق الثبوتية' المصنوعة من قصاصات الورق، وكنا نتظاهر بالتدقيق في محتويات الحقائب الصغيرة للدمى. كان هذا النوع من اللعب بمثابة إعادة تمثيل للواقع الذي نعيشه، وكأننا نحاول استيعابه أو حتى السيطرة عليه بطريقتنا الخاصة.

ثم تستكمل دنيا:"لم يقتصر الأمر على تقليد المشاهد العسكرية.


كنا نقلّد صوت صراخ النساء الذي كان يعقب كل انفجار يهز الحي، في لعبنا، وكأننا نعيد تمثيل لحظات الفزع والخوف التي كنا نشعر بها. وحتى الدمى لم تسلم من هذا التأثر، فكنا نتخيل أنها تبكي وتلطم وجوهها، تمامًا كما كنا نرى النساء المفجوعات يفعلن على شاشة التلفزيون بعد كل خبر عن ضحايا الانفجارات والسيارات المفخخة التي كانت حدثا يوميا في بغداد خلال تلك الفترة". 


وتشير أيضا إلى تأثير التلفزيون قائلة: "كان التلفزيون نافذتنا الوحيدة على العالم الخارجي، لكنه كان أيضًا مصدرًا للصور المؤلمة، فقد كنا نشاهد الأخبار ونرى صور القتلى والجرحى، ونرى النساء يبكين بحرقة. هذه المشاهد كانت تترسخ في أذهاننا الصغيرة وتظهر في لعبنا. وكنا نتخيل أن الدمى فقدت أمهاتها أو آباءها، وكنا نحاول مواساتها وتهدئتها، تمامًا كما كنا نرى الكبار يحاولون مواساة بعضهم البعض."

وتختتم دنيا حديثها بالتأكيد على عمق تأثير الحرب عليها وعلى جيلها: "أعتقد أن كل هذه المظاهر التي رأيناها وعشناها في طفولتنا تركت بصمة واضحة على طريقة تفكيرنا وسلوكنا. لقد تعلمنا في سن مبكرة أن العالم ليس مكانًا آمنًا دائمًا، وأن الفقد والخوف جزء من الحياة. وحتى لعبنا، التي كان من المفترض أن تكون ملاذًا آمنًا لنا، أصبح مرآة تعكس قسوة الواقع الذي فُرض علينا."


آثار نفسية عميقة وطويلة الأمد


تترك الحرب آثارا نفسية عميقة لا تُمحى بمرور السنين، لأن ما يحصل خلال مرحلة الطفولة يحدد شخصية الإنسان أفكاره فيما بعد.

"تستحضر رحمة عثمان (31 عامًا) سنوات طفولتها وشبابها المبكر في بغداد، وتتذكر تلك الحقبة التي طغت عليها أصوات الانفجارات المتواصلة، محولةً المدينة إلى ساحة قلق دائم. وتوضح قائلة: 'لم تكن هناك منطقة أو شارع بمعزل عن هذا الرعب المستمر. لقد فقدت خلال تلك الفترة شقيقي عام 2009، ثم زوج أختي الكبرى في عام 2011. وكانت الخسائر فادحة تركت فراغًا لا يُعوّض في حياتنا." وتضيف "لقد نشأت في ظل هذه الظروف القاسية، ولم أختبر معنى الطفولة الحقيقية كما ينبغي. كانت حياتنا تدور في فلك الخوف والهروب من الموت المحتم، مما حرمنا من أبسط حقوقنا كأطفال، وهو اللعب بحرية وأمان مع أقراننا. "

وتشير رحمة إلى التداعيات طويلة الأمد لهذا الحرمان، قائلة: "اليوم، وبعد مرور سنوات، وأنا أحتضن ابنتي، أشعر بأن تلك الفترة زرعت في داخلي حذرًا دائمًا، وربما أثرت على قدرتي على بناء علاقات قائمة على الثقة المطلقة. وكامرأة وأم، أجدني أحيانًا أبالغ في حماية ابنتي، برغبة قوية في تعويضها عن تلك الطفولة التي فقدتها. أراقبها وهي تكتشف العالم بفضول ودهشة، وآمل أن نتمكن كجيل عانى من ويلات الحرب، من توفير بيئة آمنة ومحفزة لأطفالنا لينعموا بطفولة كاملة غير منقوصة."

من جهته، يوضّح الدكتور أنور جبار، المتخصص في علم النفس

أن التعرض للصراعات والحروب في مراحل النمو المبكرة، وخاصة بالنسبة للفتيات، يترك آثارًا نفسية عميقة وطويلة الأمد تتطلب فهمًا دقيقًا ومعالجة متخصصة"، مضيفا أن "مشاهد العنف المباشر، وفقدان الأحباء والنزوح القسري والعيش تحت تهديد دائم، كلها عوامل تزيد من خطر إصابة الفتيات باضطرابات القلق، والاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة(PTSD).

ويؤكّد الدكتور أنور على طبيعة التأثير النفسي على الفتيات بشكل خاص قائلا: "غالبًا ما تتحملن أعباء إضافية في أوقات النزاع، مثل مسؤولية رعاية أفراد الأسرة الأصغر سنًا أو المرضى، كما أنهن عرضة للعنف الجنسي والاستغلال. هذه التجارب تزيد من حدة الصدمات النفسية وتجعل عملية التعافي أكثر تعقيدًا. ويمكن أن تظهر هذه الآثار النفسية على شكل أعراض جسدية غير مبررة، وصعوبات في النوم والتركيز، وتقلبات مزاجية حادة، بالإضافة إلى عوائق في بناء علاقات صحية والحفاظ عليها في المستقبل."

ويبيّن الدكتور كذلك أهمية فهم تأثير الحرب على مفهوم اللعب لدى الفتيات، الذي يتحوّل من "لغة للتعبير عن مشاعرهم وفهم العالم من حولهم إلى وسيلة لإعادة تمثيل الأحداث الصادمة، أو قد يتضاءل دوره تمامًا بسبب الخوف وانعدام الأمان. هذا الحرمان من اللعب الطبيعي والتفاعلات الاجتماعية الصحية يمكن أن يعيق النمو النفسي والاجتماعي السليم للفتيات على المدى الطويل."

ويختتم حديثه بالتأكيد على ضرورة التدخل والدعم قائلا: "من الضروري توفير برامج دعم نفسي متخصصة تراعي الاحتياجات الفريدة للفتيات اللواتي عشن في مناطق النزاع. ويجب أن تُركّز على بناء المرونة النفسية، وتوفير مساحات آمنة للتعبير عن المشاعر، وتقديم الدعم الاجتماعي اللازم لمساعدتهن على تجاوز آثار هذه التجارب الصعبة والمضي قدمًا في حياتهن."


التأثير على قطاع التعليم


لم تؤثر الحرب فقط على طفولة الفتيات و أحلامهن بل لاحقتهن حتى في المدارس. في هذا الصدد، تقول السيدة سليمة محمد معلمة متقاعدة بخبرة تزيد عن عقدين من الزمن: "لقد قضيت عقودًا طويلة في مجال التعليم، وشهدت خلال مسيرتي المهنية التي امتدت من عام 1996 وحتى عام 2020، تحولات جذرية في حياة طلابنا، وخاصة خلال سنوات الصراعات والاضطرابات التي عصفت بالبلاد"، مضيفة "كانت فترة مليئة بالتحديات، أتذكر جيدًا كيف كانت أصوات الانفجارات تصل إلى أسوار المدرسة، وكيف كانت تعابير الخوف والقلق ترتسم على وجوه التلاميذ، فتياتًا وفتيانًا على حد سواء. ولم يكن من السهل التركيز على الدروس في ظل هذه الظروف القاهرة."

وتشير إلى التحديات الخاصة التي واجهت تعليم الفتيات بالقول: "بالنسبة لهن، كانت هناك تحديات إضافية، حيث كانت بعض العائلات تتردد في إرسال بناتها إلى المدرسة خوفًا عليهن من الأوضاع الأمنية في الطرقات. واضطرت بعض الفتيات من الديانة المسيحية والصابئة المندائية إلى ارتداء الحجاب بسبب تهديدات من بعض الجماعات المسلحة آنذاك والترهيب الذي كان يلاحقهن إلى مقاعد الدراسة، كما أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرت بها الكثير من الأسر دفعت بعض الفتيات إلى الانقطاع عن الدراسة للمساعدة في إعالة أسرهن. وكنا نحاول جاهدات تشجيع الأهالي وإقناعهم بأهمية تعليم بناتهم، لكن الأمر لم يكن يسيرًا دائمًا."

من جهة أخرى، كان تأثير الحرب يظهر في سلوك الطلاب وتفاعلهم، فقد " كانوا يحضرون إلى الصفوف وهم يحملون في داخلهم قصصًا مؤلمة، من فقدان أفراد من عائلاتهم أو لجيرانهم، إلى ذكريات النزوح والتهجير من منطقة إلى أخرى. وكان من واجبنا كمعلمات أن نكون أكثر حساسية وتفهمًا لهذه الظروف، وأن نوفر لهم بيئة آمنة وداعمة داخل الصفوف."

وقد طال تأثير النزاع المسلح مفهوم اللعب نفسه لدى الأطفال، حيث تقول المُعلمة المتقاعدة


"لقد لاحظنا بوضوح كيف تغيرت طبيعة لعب الأطفال. لم يعد اللعب عفويًا ومرحًا كما كان في السابق. كانت يظهر في ألعابهم تقليد لمشاهد العنف التي كانوا يرونها، وكأنهم يحاولون استيعاب هذا الواقع القاسي من خلال عالمهم الصغير. وبالنسبة للفتيات، كان التعبير عن هذه المشاعر يتم بطرق أكثر هدوءًا، لكن القلق والخوف كان واضحًا في رسوماتهن وقصصهن."


وتختتم السيدة سليمة حديثها قائلة: "لقد كان تعليم ذلك الجيل مسؤولية كبيرة. وحاولنا قدر استطاعتنا أن نكون لهم السند والمعين، وأن نوفر لهم الأدوات المعرفية والنفسية لمواجهة هذه التحديات. ويبقى الأمل دائمًا في أن يتجاوزوا آثار النزاع ويتمكنوا من بناء مستقبل أفضل لأنفسهم ولوطنهم."


لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

Comments


Follow Us !

Thanks for submitting!

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter

Thanks for submitting!

فتيات ضحايا لهيمنة العادات بمستقبل مجهول.png
bottom of page