جمال خارج "الفلتر".. كيف تتحدى البغداديات ديكتاتورية المظهر؟
- تمارة عماد
- 17 يونيو
- 5 دقيقة قراءة

في مقهى يضج بالحياة وسط بغداد، تمرر "آية سمير"(اسم مستعار) (23 عاماً) إصبعها بسرعة على شاشة هاتفها. صور لوجوه مصقولة، أجساد مثالية، وحياة تبدو خالية من العيوب تتدفق أمام عينيها. تتنهد الشابة التي تأمل أن يكون لها يوما ما جسد مماثل.
ليس هذا حال آية وحدها، ففي بغداد اليوم، كما في مدن عربية أخرى، تتعرض الشابات لوابل لا ينقطع من صور لنساء يدعين استجابتهن لمعايير جمال مثالية، تبدو أحياناً مستحيلة التحقق: من هوس البشرة البيضاء الصافية "الزجاجية" كما يتم وصفها، إلى النحافة المفرطة، مروراً بملامح وجه منحوتة، معايير صارت هي القاعدة الذهبية للجمال، ولا يمكن الوصول إليها إلا بفضل الفلاتر وعيادات التجميل المنتشرة.
لكن ماذا عن الشابات اللواتي لا يجدن أنفسهن في هذه المرآة الرقمية والمجتمعية المثالية؟
نحاول من خلال هذه القصة الصحفية التعمق في التجربة الحية لشابات بغداد اللواتي يعشن يومياً تحت وطأة هذه المعايير، ويكشفن عن تكلفتها الباهظة على صحتهن النفسية، وثقتهن بأنفسهن، وحتى فرصهن في الحياة المهنية. نوثق قصصا عن الضغط الصامت، والندوب غير المرئية، ومحاولات الصمود في وجه قالب جمالي لا يرحم.
سياط المقارنة اليومية
"كلما فتحت إنستغرام أشعر أنني قبيحة"
"كلما فتحت إنستغرام أشعر أنني قبيحة"، تقول "سارة" (اسم مستعار) طالبة جامعية تبلغ من العمر 21 عاماً. لا يعكس قولها مجرد مقارنة عابرة مع ما تشاهده من صور، وإنما شعورا يوميا بالنقص. كذلك، فإن المقارنات لم تعد فقط مع نجمات السينما البعيدات، بل مع المؤثرات المحليات وزميلات الدراسة والجارات اللواتي يخضعن لعمليات تجميل أو يستخدمن التعديل على صورهن والفلاتر. يمتد الضغط إلى الواقع، فتسمع الشابة تعليقات لاذعة حول وزنها، طولها، لون بشرتها الأسمر قليلاً، أو أنفها الذي يحتاج تعديلاً. هذه التعليقات، كما تروي شابات أخريات، قد تأتي أحياناً من أقرب الناس مثل الأهل والأخوات، مما يضاعف من وقعها عليهن، وشعورهن المستمر بالحاجة لإجراء عمليات تجميل ليستجبن لمعايير الجمال المثالية.
الأثر النفسي.. ما لا تظهره المرآة
"القلق من المظهر صار جزءاً من روتيني اليومي،" تقول هدى (25 عاماً، موظفة)، بالنسبة لها، الأمر ليس مجرد هاجس عابر، بل واقع يومي تثقله ضغوط هائلة للتوافق مع صورة أنثوية غير واقعية تحاصرها من كل حدب وصوب. في محيط عملها، يبدو الهوس بإجراء التغييرات والرتوش وكأنه عملة رائجة، بينما هي، بطبيعتها المتحفظة تجاه الحقن وكل ما يندرج تحتها، تجد نفسها خارج هذا السياق تماماً.
"لا أملك معايير الجمال الرائجة، ولا أسعى لأن أكون فائقة الجمال،" تضيف هدى بصدق. "أعرف أن ملامحي وشكلي بسيطان جداً." لكن هذه البساطة، تتحول إلى نقطة ضعف في نظر الأخريات. "تلاحقني الزميلات دائماً بالقول بأني لن أحصل على عريس أو زوج في حال بقيت هكذا دون التحسين من شكلي."
تلك الكلمات، التي قد تبدو عابرة لقائلها، تخلق لدى هدى عاصفة داخلية.
"أتألم وأشعر بضيق تنفس وأهرب إلى الحمام في كل مرة أسمع هذه التعليقات." يصل الأمر أحياناً إلى فقدان الشهية لأيام متتالية، تحت وطأة الحزن والضغط النفسي الذي يُطبق على صدرها. وحتى لو تجرأت على تجاوز خوفها من الحقن والإجراءات التجميلية، فإن وضعها المادي يمثل عائقاً إضافيا. "أكثر من نصف راتبي يؤمن جزءاً من إيجار اليت والنقل"، ليصبح الجمال بالنسبة لها مفهوماً مختلفاً تماماً: "أحرص على أن أكون بهندام نظيف ولائق وبسيط."
لكن هذه القناعة لا تحميها من سهام الكلمات الجارحة. "أعلم أني سأسمع المزيد من التعليقات التي لا يفكر أصحابها ولو لدقيقة بكمية الألم الذي يتسببون فيه للآخرين، فقط لأنهم يريدون رؤية الجميع بصورة مثالية." لا تبدو معركة هدى اليومية مع المرآة، وإنما مع مجتمع يصر على فرض تعريفات قاسية للجمال، متجاهلاً القيمة الكامنة في البساطة والأصالة.
"أحياناً أشعر أنني غير مرئية،" تعترف من جهتها، زينب (27 عاماً)، وهي تصف نفسها بكلمات قليلة لكنها تحمل الكثير من المعاني: "أنا ممتلئة قليلاً". هذا الوصف الذاتي الموجز يلخص واقعاً يومياً مليئاً بالتحديات، بدءاً من صعوبة العثور على ملابس مناسبة وعصرية تعكس ذوقها، وصولاً إلى تلك النظرات الخاطفة التي تحمل تقييماً ضمنياً سلبيا لمظهرها.
لكن الأمر يتجاوز صعوبات التسوق، فبالنسبة لزينب، ثمة شعور عميق بأن عدم تطابقها مع الموديل الجسدي السائد قد يقلل من فرصها في جوانب مختلفة من الحياة، حتى تلك التي يُفترض أن تعتمد على الكفاءة والجدارة. "بالرغم من أني محترفة في مجال عملي، وعند التقديم على وظائف، أصل لمرحلة المقابلة، لكن للأسف لا يتم الاتصال بي بعد ذلك. يبدو أنه لا يتم التركيز على مهاراتي بقدر مظهري." هذا يعزز لديها الإحساس بالتهميش والحاجة إلى بذل مجهود مضاعف لإثبات الذات.
تسترجع زينب سنوات من الضغوط الاجتماعية التي بدأت منذ الطفولة. "قضيت طفولتي وشبابي وأنا أسمع كلمات مثل 'سوي رجيم'، 'اخذي منحفات'، 'روحي للجيم'." هذه التعليقات، التي ربما قصد بها البعض النصح، تركت أثراً عميقاً على نفسيتها. "لم أعد أريد الإستماع إلى كل هذه التعليقات. أرغب فقط في أن أعيش بسلام، فأنا متقبلة لشكلي ووزني الذي، حسب كلام الأطباء الذين راجعتهم، هو أمر وراثي مرضي."
المقاومة والبحث عن الذات
" وسط هذا الهوس بالكمال المصطنع، اخترت مساراً آخر،" تقول نور (24 عاماً)، بلهجة واثقة، مضيفة
"صح شكلي مو حلو!" وسمعت طول سنوات سابقة تعليقات مثل "متفوقة صح بس لو طالعة على أهل امج حلوين"، لذلك قررت أن أركز على هدف أكبر، والتفوق في دراستي".
إصرار نور على النجاح كان نوعا من التمرد الصامت على ديكتاتورية المظهر التي تخنق فتيات جيلها، فبالنسبة لها، المعركة الحقيقية لا تدور أمام المرآة، بل في قاعات الدراسة ومواقع العمل، حيث تسعى جاهدة لترسيخ قيمتها الشخصية بناءً على قدراتها.
"رفضت أن أكون مجرد رقم في معادلة الجمال الزائفة التي تروج لها الشاشات ومنصات التواصل، والاقارب والجيران" تُوضّح نور :"طاقتي وتركيزي أثمن من أن أستهلكهما في محاولة خاسرة للتطابق مع قوالب جاهزة لا تشبهني ولا تعبر عني." هذا القرار الواعي لم يأت بسهولة، بل كان ثمرة إدراك متزايد لحجم الضغط الذي يمارس على النساء، حيث يصبح المظهر شرطا للمقبولية الإجتماعية والمهنية في كثير من الأحيان. " وصلت لهذه القناعة بعد متابعة العديد من جلسات لمعرفة قيمة نفسي وجوهرها"، تضيف الشابة.
وتستطردقائلة: "أرى زميلاتي يستنزفن أوقاتهن وأموالهن في سباق ومنافسة لتعديل ملامحهن، خوفاً من نظرة عابرة أو تعليق جارح. من جهتي، اخترت أن أستثمر وقتي وجهدي في تطوير مهاراتي عبر أخذ دورات تدريبية، وكورسات لغة انكليزية، لتحقيق إنجازات ملموسة تشعرني بالفخر الحقيقي."
ليست نور وحدها من اختارت هذا الطريق، فهي تشترك مع صديقاتها المقربات في هذا الرفض لقوالب الجمال النمطية، "نحن نخلق مساحة آمنة لأنفسنا، حيث تحتفي كل واحدة منا بقوتها الداخلية وإنجازاتها، بعيداً عن المقارنات السامة التي تغذيها منصات التواصل".
من جهته، يقول الدكتور محمد عبد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة بغداد، أن " المجتمعات المعاصرة تشهد ضغطاً متزايداً على الأفراد، ولا سيما النساء، للتوافق مع معايير جمالية محددة غالباً ما تكون غير واقعية وقابلة للتحقيق لشريحة محدودة فقط. هذا الضغط، الذي تغذيه بقوة وسائل الإعلام الرقمية والإعلانات التجارية، يخلق بيئة نفسية واجتماعية مليئة بالتحديات بالنسبة للنساء اللاتي لا يتماشين مع هذه الصور النمطية، أو اللاتي لا يجدن ميلاً شخصياً نحو تبنيها."
ويضيف "إن التركيز المفرط على المظهر الخارجي يمكن أن يؤدي إلى تهميش وإقصاء غير مباشر للنساء اللاتي لا يلتزمن بهذه المعايير، مما يؤثر على ثقتهن بأنفسهن وشعورهن بالانتماء والقبول الاجتماعي. وقد يتجلى هذا التهميش على شكل تعليقات سلبية، أو نظرات تقييمية، أو حتى فرص أقل لاقتحام بعض المجالات الاجتماعية والمهنية، على الرغم من الكفاءة والجدارة."
"من الناحية الاجتماعية،" يوضح الدكتور عبد، "يمكن أن يؤدي هذا الضغط إلى خلق ما يشبه 'بوليس الجمال' غير الرسمي داخل المجتمعات، حيث يمارس الأفراد، عن قصد أو غير قصد، رقابة على مظاهر الآخرين وفقاً للمعايير السائدة. وهذا يخلق مناخاً من القلق المستمر والخوف، مما يستنزف الطاقة النفسية للشابات".
ويختتم الدكتور عبد بالقول: "من الضروري فهم هذه الديناميكيات الثقافية والنفسية لتسليط الضوء على التحديات التي تواجهها النساء في بناء صورة ذاتية إيجابية بعيداً عن هذه الضغوط الخارجية. لذك، فإن تعزيز قيم بديلة ترتكز على الجوهر الداخلي والكفاءات الشخصية والإنجازات يمثل خطوة ضرورية نحو خلق مجتمعات أكثر شمولية وإنصافاً."
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments