اشتعلت حدة النقاش في أروقة البرلمان العراقي حول تعديل قانون الأحوال الشخصية، حيث يمنح التعديل رجال الدين سلطة أوسع في تنظيم الحياة الزوجية وقضايا الأسرة، وفقًا لـ"فتاوى فقهية". ويتضمن التعديل المقترح السماح لرجال الدين بإبرام عقود الزواج خارج المحاكم، وإعطاء العراقيين حرية اختيار تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وفقًا لمذهبهم في مسائل الأحوال الشخصية.
في خضم هذا الصراع، برزت حملات لتشويه "النسوية" وكل ما يتعلق بها في محاولة للمس من صورة الناشطات النسويات وتخويفهن لمنعهن من التعبير عن آرائهن بحرية.
تقول سارة سمير 20 عامًا طالبة طب أسنان في جامعة بغداد، وناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة، إنها ورثت روح النضال من والدتها التي رافقتها لسنوات في مسيرتها للدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة. وأنها كمرأة تعرف حقوقها ومستعدة لتقف وتدافع عن الفكرة التي تؤمن بها. وتتابع حديثها بانفعال: "فجأة، وبينما نحن نرفض ونقف كحائط صد أول في وجه القوانين التي تهين المرأة العراقية وتسلبها حقوقها، يتم اتهامنا بأسوأ الاتهامات، من قبل الذباب الإلكتروني، والبعض من النساء قليلات المعرفة والخبرة".
وتؤكد سارة أن مصطلح "النسوية" أصبح يلاحق الناشطات وكأنه إهانة، لكنه "وسام شرف نحمله أينما حللنا"، مضيفة بتحدٍ: "لن نتراجع عن الدفاع عن حقوقنا، ولن نخاف من الاتهامات والتنمر، وسنستمر في نضالنا حتى تحقق المرأة العراقية المساواة الكاملة".
لم يقتصر تشويه مصطلح "النسوية" على وسائل الإعلام التقليدية، بل امتد إلى العالم الرقمي حيث رُصدت مئات الحسابات على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى التي تستخدم هذا المصطلح بشكل مسيء لاستهداف الناشطات النسويات.
تشير التحليلات إلى وجود حملات ممنهجة تستخدم فيها حسابات مجهولة الهوية أو وهمية لنشر خطاب الكراهية والتنمر ضد أي امرأة تصرح بكونها "نسوية". وتتنوع أساليب الهجوم بين التشهير الشخصي، والتحريض على العنف، وحتى التهديد بالقتل.
هذه الهجمات الإلكترونية تخلق بيئة معادية للنساء على الإنترنت، وتعيق قدرتهن على التعبير عن آرائهن بحرية والمشاركة في النقاش العام. كما أنها تساهم في تعزيز الصورة النمطية السلبية عن النسوية وتؤجج الانقسامات المجتمعية.
"الذباب الإلكتروني" سلاح فتاك في معركة تشويه النسويات
يؤكد مختص في الأمن الرقمي، فضل عدم الكشف عن هويته، أنه تلقى العديد من الشكاوى من نساء تعرضن لحملات تشهير وتشويه ممنهجة عبر الإنترنت. وأوضح أن هذه الحملات غالبًا ما تنطلق من حسابات وهمية أو مجهولة الهوية تُعرف باسم "الذباب الإلكتروني"، وهي حسابات يتم إنشاؤها وتشغيلها بشكل منظم لنشر معلومات مضللة أو مهاجمة أشخاص أو جماعات معينة.
وأضاف المختص أن "الناشطات النسويات والمدافعات عن حقوق الإنسان والعاملات في مجال المجتمع المدني، بالاضافة إلى الصحفيات، هن من بين الفئات الأكثر استهدافًا من قبل الذباب الإلكتروني، حيث يتم اتهامهن بالعمل لمصلحة جهات خارجية، والطعن في شرفهن، والترويج لأفكار "هدامة" للمجتمع". وأشار إلى أن هذه الهجمات غالبًا ما تتضمن نشر صور مفبركة أو معلومات كاذبة، وتهدف إلى إسكات أصوات النساء وتخويفهن من التعبير عن آرائهن، وأكد أن مثل هذه الحملات تُشكّل تهديدًا خطيرًا لحرية التعبير وحقوق الإنسان في العراق.
تقول المحامية نغم الساعدي، المختصة في قضايا الدفاع عن حقوق المرأة والحريات إن الخطاب المستخدم ضد الناشطات النسويات يحمل في طياته دلالات خطيرة، حيث "أن استخدام مصطلحات مثل "عميلات للغرب" و"خارجات عن الدين" يهدف إلى شيطنة الناشطات وعزلهن عن المجتمع، وتصويرهن كخطر يُهدد القيم والأعراف".
وتشير المحامية إلى أن "هذا الخطاب يعتمد على أساليب التخويف والترهيب لإسكات الأصوات النسائية ومنعهن من المشاركة في الحياة العامة. والهدف هو إعادتهن إلى الأدوار التقليدية وحرمانهن من حقوقهن ومكتسباتهن". لذلك تُحذّر من أن هذا الخطاب التحريضي يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، بما في ذلك العنف ضد النساء. وتدعو إلى ضرورة مواجهته بكل حزم من خلال نشر الوعي عند الأغلبية الصامتة من النساء اللواتي مازلن يجهلن حقوقهن، وتعزيز ثقافة احترام حقوق المرأة وحرية التعبير من قبل المجتمع ككل".
"أغلقت حساباتي.. خوفًا على حياتي"
"لم يعد الأمر مجرد مزحة أو تعليقات مسيئة"، تقول مدافعة عن حقوق المرأة اضطرت لإغلاق جميع حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي بعد تعرضها لحملة تنمر وهجوم شرسة بسبب وصفها بـ"النسوية". وتضيف:"العديد من النساء قتلن في العراق بسبب هذه الاتهامات التي انتشرت على السوشيال ميديا".
وتروي المدافعة، التي فضلت عدم الكشف عن هويتها خوفًا على سلامتها، كيف تحولت حياتها إلى جحيم بعد أن بدأت تتلقى تهديدات بالقتل والاغتصاب من حسابات مجهولة. وتقول: "شعرت بأنني مستهدفة، وأن حياتي في خطر. لم أعد أستطيع النوم أو الأكل، وبدأت أعاني من نوبات هلع". وتضيف "اضطررت لإغلاق جميع حساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي، وتغيير رقم هاتفي، وتجنب الخروج من المنزل إلا للضرورة القصوى. أشعر بأنني سجينة في بيتي، وأن حريتي قد سلبت مني".
وتنهي حديثها بأسف: "مللنا من الطلب المكرر من السلطات العراقية والمجتمع الدولي لحماية الناشطات النسويات من العنف والتنمر والتحريض على القتل. يجب أن تتوقف هذه الهجمات، وأن تتم محاسبة المسؤولين عنها. لا يمكن أن نسمح بأن تصبح "النسوية" تهمة تؤدي إلى القتل والترهيب، مئات النساء اللواتي كن ضحية حملات تحريض وتشويه، فأين المفر ! لا أدري!".
ليلى محمد (إسم مستعار)، ناشطة في المجتمع المدني تعمل في واحدة من منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان في بغداد، وتبلغ من العمر 33 عامًا، تواجه تحديات كبيرة بسبب طبيعة عملها، حيث وصل الأمر إلى اتهام أقرب الناس إليها، إخوتها وأخواتها، لها بالعمالة لجهات خارجية. تقول : "بسبب سكني في منطقة ملتزمة دينيًا، يحاول أهلي إخفاء طبيعة عملي وكأنها وصمة عار وخزي. لقد تعرضت لضغوط هائلة لترك العمل، لكنني رفضت ذلك رفضًا قاطعًا". وتضيف بحزن: "في كل مرة أرفض فيها أمرًا يراه أهلي غير مناسب، يواجهونني بالاستهزاء أو التقليل من قيمتي، ويقولون لي: 'أكيد أنتِ نسوية تربية منظمات، شنو نتوقع منك'، وغيرها من الألفاظ الجارحة".
لكن ليلى تصر على عدم التراجع عن مبادئها وقناعاتها. وتقول: "أختار كرامتي وحريتي، حتى لو كان الثمن هو مواجهة أقرب الناس إلي. سأستمر في الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة، ولن أسمح لأحد بأن يسكت صوتي".
من جهته، يرى المختص في الطب النفسي الدكتور أنور جبار أن
"التنمر الإلكتروني الذي تتعرض له الناشطات النسويات يمكن أن يترك آثارًا نفسية واجتماعية عميقة عندهن. ويضيف: "أن التعرض المستمر للإهانات والتهديدات يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة ".
ويشير المختص إلى أن "هذا النوع من التنمر يمكن أن يؤثر أيضًا على العلاقات الاجتماعية للضحايا، ويجعلهن يشعرن بالعزلة والانطواء، وفي بعض الحالات، قد يدفع التنمر الإلكتروني الضحايا إلى التفكير في الانتحار".
ويؤكد الدكتور جبار على أن استخدام مصطلحات مثل "النسوية" كوصمة عار يساهم في خلق بيئة معادية للمرأة في المجتمع العراقي .ويدعو إلى ضرورة توفير الدعم النفسي، والاستشارات النفسية المجانية للناشطات والمدافعات اللاتي يتعرضن للتنمر الإلكتروني أو غيره من الصدمات من قبل المنظمات والجهات المعنية بحقوق المرأة في العراق ".
النسوية في العراق: نضال من أجل حقوق المرأة والمساواة
النسوية، في جوهرها، هي حركة اجتماعية وسياسية وفكرية تدعو إلى تحقيق المساواة بين الجنسين في جميع المجالات. تعود جذور الحركة النسوية في العراق إلى أوائل القرن العشرين، حيث بدأت النساء العراقيات بالمطالبة بحقوقهن في التعليم والعمل والمشاركة السياسية.
شهدت العقود التالية تأسيس العديد من الجمعيات والمنظمات النسوية التي لعبت دورًا هامًا في الدفاع عن حقوق المرأة وتحقيق العديد من المكاسب، بما في ذلك حق التصويت والترشح للانتخابات، والمساواة في التعليم والعمل، وإلغاء بعض القوانين التمييزية.
على مر التاريخ، كافحت نساء عراقيات شجاعات من أجل تحقيق المساواة والعدالة. منهن نزيهة الدليمي، أول وزيرة في العراق والعالم العربي، التي مهدت الطريق أمام الأجيال القادمة. وهناء أدور، التي كرست جهودها لتمكين المرأة ومكافحة العنف. و يانار محمد، التي تصدت لقضايا العنف الأسري وجرائم الشرف. هؤلاء النساء، وغيرهن الكثير، يمثلن مصدر إلهام للأجيال الحالية والقادمة من النساء العراقيات في سعيهن لتحقيق المساواة الكاملة.
اليوم، تواجه الحركة النسوية في العراق تحديات كبيرة، بما في ذلك تنامي التيارات المحافظة التي تسعى إلى تقييد حقوق المرأة، واستخدام مصطلح "النسوية" كأداة لتشويه سمعة الناشطات وإسكاتهن.
ومع ذلك، تواصل الناشطات النسويات في العراق نضالهن من أجل تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين، وتحدي الصور النمطية السلبية عن المرأة، والدفاع عن حقوقهن وحرياتهن.
تؤكد الناشطات أن النسوية ليست "تهديدًا للأسرة أو الدين"، بل هي حركة تدعو إلى بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافًا، حيث يتمتع الجميع، رجالاً ونساءً، بحقوق متساوية وفرص متكافئة.
في تصريح حازم، أدانت النائبة في البرلمان العراقي سروة عبد الواحد بشدة استخدام مصطلح "النسوية" كأداة لتشويه سمعة المعارضين لتعديل قانون الأحوال الشخصية.
وقالت: "أولئك الذين يستخدمون هذا المصطلح بهذه الطريقة عليهم مراجعة مخزونهم الثقافي والفكري".
وأضافت عبد الواحد: "الحركات النسوية، عبر التاريخ وفي جميع أنحاء العالم، لعبت دورًا محوريًا في تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين. إن تجاهل هذا التاريخ والنظر إلى النسوية كتهديد هو أمر مؤسف، بل إن ربط النسوية بالعمالة أو الخيانة هو محاولة يائسة لتغييب أصوات النساء الحقيقية المطالبة بحقوقهن".
وأكدت النائبة على رفضها القاطع لأي تعديلات على قانون الأحوال الشخصية من شأنها أن تنتهك حقوق المرأة أو تقلص من مكتسباتها. وقالت: "سأظل أدافع عن حقوق المرأة العراقية، ولن أسمح لأحد بأن يستخدم مصطلحات مسيئة لإسكات صوتي أو تشويه سمعتي".
ودعت إلى حوار مجتمعي بناء حول قانون الأحوال الشخصية، قائلة: "يجب أن يتم النقاش حول هذا القانون بعيدًا عن لغة التخوين والاتهامات، وأن يتم الاستماع إلى جميع الأصوات، بمن فيهم النساء والناشطات النسويات".
وفي السياق ذاته خرجت تظاهرات في عدة محافظات عراقية تندد بالقانون الذي تم اعتباره بوابة لتفكيك الأسرة العراقية و"قتل الطفولة".
وحذرت منظمة هيومن رايتس ووتش من أن التعديلات المقترحة على قانون الأحوال الشخصية في العراق ستكون بمثابة "خطوة مدمرة إلى الوراء" لحقوق النساء والفتيات، خاصة وأنها تسمح للمرجعيات الدينية بتنظيم شؤون الزواج بدلًا من قانون الدولة، مما يمهد لتشريع زواج القاصرات ويحرم الفتيات من مستقبلهن.
آراء متباينة في بغداد حول "النسوية" كوصمة عار
أبو علي، 46عامًا، صاحب متجر في منطقة الكرادة، يرى أن "النسوية" فكرة غريبة عن مجتمعنا. ويقول: "نحن مجتمع محافظ، ولدينا قيمنا وتقاليدنا التي يجب أن نحافظ عليها. النسوية تهدد هذه القيم، وتشجع النساء على التمرد على دورهن الطبيعي كزوجات وأمهات".
تتفق أم حسين، 51 عامًا، ربة منزل من منطقة البنوك، مع هذا الرأي، معتبرة أن "النساء العراقيات يتمتعن بكامل حقوقهن، ولا يحتجن إلى النسوية وأن هذه الأفكار مستوردة من الغرب، وتهدف إلى تدمير أسرنا".
على عكسهما، ترى زهراء عبدالله، 21 عامًا، طالبة جامعية من منطقة العامرية، أن مصطلح "النسوية" يستخدم كأداة لقمع المرأة وإسكاتها. وتقول: "عندما تطالب المرأة بحقوقها، يتهمونها بأنها نسوية، وكأنها شتيمة. وهذا يمنع الكثير من النساء من التعبير عن آرائهن بحرية، ويحد من مشاركتهن في الحياة العامة".
أما أحمد علاء، 27 عامًا، ناشط مدني من منطقة الأعظمية، فيعتبر أن النسوية ضرورة لتحقيق المساواة بين الجنسين في المجتمع العراقي، لأنه "لا يمكن أن نتقدم كمجتمع إلا إذا تمتع الجميع، رجالًا ونساءً، بحقوق متساوية وفرص متكافئة". ويضيف أنه "يجب أن نتوقف عن استخدام مصطلح 'النسوية' كوصمة عار، وأن ندرك أن النضال من أجل حقوق المرأة هو نضال من أجل مجتمع أفضل للجميع".
من جهتها تؤكد الدكتورة رنا العبادي، الأستاذة في كلية الإعلام، على ضرورة الفهم الحقيقي لمفهوم النسوية بعيدًا عن التشويه المتعمد. وتقول: "إن تصوير النسوية كحركة معادية للرجال أو للدين هو محاولة يائسة لتخويف المجتمع وإقصاء الأصوات النسائية المطالبة بالحقوق". وتشدد على أن النسوية، في جوهرها، هي " نضال من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين في جميع المجالات، وأنها لا تسعى لجعل المرأة أفضل من الرجل، وإنما للقضاء على التمييز والظلم الذي تعاني منه النساء في مجتمعنا، كما أنها لا تتعارض مع الدين الإسلامي، بل على العكس، تدعو إلى تطبيق مبادئ الإسلام التي تحث على العدل والمساواة بين جميع البشر. وتضيف: "الإسلام كرّم المرأة ومنحها حقوقًا، والنسوية تسعى إلى استعادة هذه الحقوق وضمان تطبيقها على أرض الواقع".
وتوجه العبادي رسالة إلى كل من يستخدم مصطلح "النسوية" كسلاح لتشويه سمعة الناشطات: "حاولوا أن تفهموا النسوية بشكل صحيح، بدلًا من نشر الأكاذيب والشائعات. النسوية ليست عدوة لكم، بل هي شريكة لكم في بناء مجتمع أفضل للجميع".
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Kommentare