
مع التطور السريع لوسائل الإعلام وانتشار الأخبار عبر الفضاء الرقمي، أصبحت الأخبار المضللة إحدى أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة. في العراق، تتعرض النساء بشكل خاص لآثار هذه الظاهرة، حيث جاء في تقارير صادرة عن هيئة الأمم المتحدة للمساواة وتمكين المرأة، أن النساء أكثر عرضة للتضليل والعنف الرقمي مقارنة بالرجال. وتشير البيانات إلى أن نسبة كبيرة من المحتوى الذي يستهدف النساء عبر وسائل التواصل الاجتماعي يحتوي على معلومات كاذبة أو مشوهة.
إن انتشار الأخبار المضللة في الفضاء الرقمي لا يؤثر فقط على دقة المعلومات المتاحة، بل يتسبب أيضًا في تداعيات اجتماعية ونفسية عميقة، فالنساء غالبًا ما يدفعن الثمن الأكبر لهذا الخلل الإعلامي، إذ يتم استغلال المعلومات المضللة لتشويه سمعتهن أو تقويض دورهن في المجتمع.
وفقًا لدراسة أجراها المركز الدولي للصحفيين وجامعة "جورج تاون" إن نحو 25% فقط من وسائل الإعلام تستخدم أدوات التحقق من الأخبار. هذا الرقم يعكس حجم التحدي، خاصة عندما تصبح هذه المعلومات أداة للتأثير السلبي على حياة النساء العراقيات، فالأخبار الكاذبة قد تكون لها تداعيات على قراراتهن الشخصية والمهنية، وقد تضر بعلاقاتهن الاجتماعية، وتضعف ثقتهن بأنفسهن.
لكن، كيف يمكن التصدي لهذه الظاهرة؟ وما الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الإعلامية والتقنية والمجتمع المدني في تدقيق المعلومات؟
استهداف النساء في الفضاء الرقمي
في العصر الرقمي الحالي، تواجه النساء العاملات في المجال العام أو الناشطات عبر الإنترنت تحديات متزايدة بسبب انتشار الأخبار الكاذبة والتضليل والابتزاز الإلكتروني. تشمل هذه الفئة السياسيات، والصحفيات، والمدافعات عن حقوق الإنسان، والناشطات في مجال حقوق المرأة، حيث يتم استهدافهن بشكل متكرر من خلال اختلاق الشائعات واستخدام الوصمات الاجتماعية التقليدية لتقويض دورهن.
تعمل هذه الهجمات المضللة على مهاجمة النساء عبر أساليب تتسم بالخداع والتشويه، غالبًا من خلال التلاعب بالمعلومات أو الصور. على سبيل المثال، قد يتم نشر صور لسيدة تعمل في المجال السياسي مع تعليقات تنتقد لباسها أو وجودها في موقع غير مألوف، أو استغلال منشورات شخصية لناشطة مدنية بهدف الإساءة لسمعتها والتأثير على وضعها النفسي والاجتماعي.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على النساء العاملات في الفضاء العام، فقد تمتد لتشمل نساء من عامة الشعب، مثل ليلى، معلمة تبلغ من العمر 32 عامًا وتعمل في إحدى المدارس الحكومية في مدينة واسط.
تُعد قصة ليلى مثالًا حيًا على تأثير الأخبار المضللة على حياة النساء، حيث كانت هذه الأخيرة تعمل بجد في مدرستها، ولكنها فوجئت بحملة تشويه طالتها وطالت زملاءها، من خلال شائعات زائفة انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول أساليب التعليم في المدرسة.
تسببت هذه الحملة في ضغوط نفسية هائلة عليها وعلى زملائها، وتأثر المجتمع المحلي وطلاب المدرسة بشكل مباشر. مع ذلك، قررت ليلى مواجهة هذه التحديات بشجاعة وحكمة. وقالت: “على الرغم من كل هذه الشائعات، لدينا واجب تجاه طلابنا ومجتمعنا. يجب أن نظل ملتزمين بتقديم تعليم عالي الجودة ونسعى لتصحيح الفهم الخاطئ.”
تواصلت المدرّسة مع وسائل الإعلام المحلية لتوضيح الحقائق، مشددة على أن الشائعات لن تثنيها عن أداء رسالتها التعليمية. وأضافت: “التحديات تجعلنا أقوى، وسنواصل تقديم الأفضل لطلابنا مهما كانت العقبات.”
المؤشرات الرقمية للعراق
يبلغ عدد سكان العراق أكثر من 45 مليون نسمة. ووفقًا لتقرير Data Reporter، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت فيه عام 2023 حوالي 33.72 مليون شخص، فيما وصلت نسبة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي عبر أجهزة الموبايل إلى 100%.
وتوضح الإحصائيات نسب استخدام الأجهزة المختلفة لتصفح الإنترنت بين الجمهور العراقي، حيث تحتل الهواتف المحمولة المرتبة الأولى بنسبة 65.53%، تليها أجهزة الكمبيوتر المحمولة والمكتبية 32.71%، ثم الأجهزة اللوحية (الأيباد) 1.72%.
وأظهرت نفس الدراسة فيما يخص عادات تصفح الإنترنت في العراق أن متصفح Google Chrome يأتي في الصدارة بنسبة استخدام بلغت 74.56%، مما يعكس هيمنته على السوق العراقي. ومع هذا الانتشار التكنولوجي، يبرز تحدي انتشار الأخبار المزيفة والتضليل الإلكتروني، الذي يؤثر بشكل خاص على فئات معينة.
وكشفت الدراسة كذلك أن من أكثر الكلمات التي بحث عنها المستخدمون في العراق هي كلمة "صور بنات" التي احتلت المرتبة 19، مما يثير القلق حول التحديات التي تواجهها النساء في الفضاء الرقمي والتي قد تشمل استغلال صورهن ومعلوماتهن الشخصية.
أما فيما يخص وسائل التواصل الاجتماعي، فقد بلغ عدد المستخدمين 25.53 مليون مستخدم، تشكل النساء 33.4% منهم، مقارنة بـ 66.6% للرجال.
تعكس هذه الأرقام دور وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز تواصل مختلف فئات المجتمع العراقي، وإمكانية مساهمتها في انتشار الأخبار المضللة، وتأثيرها على الفئات الأكثر نشاطًا رقميًا، وخاصة النساء.
تجربة منصة "التقنية من أجل السلام" في تدقيق المعلومات
أوس السعدي، مؤسس ورئيس منصة "التقنية من أجل السلام"، يقود فريقًا يسعى إلى الكشف عن الأخبار الكاذبة والتضليل الإلكتروني، ما جعل هذه المنصة الأولى من نوعها في العراق. ويؤكد السعدي أن انتشار التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي سهّل إنشاء ونشر المحتوى غير الصحيح، خصوصًا خلال الأحداث الرائجة، مما يضع تحديات كبيرة أمام مدققي المعلومات.
يقول السعدي: "هناك الكثير من التحديات التي تواجهنا في تدقيق المعلومات في العراق، منها تحديات تقنية للتحقق من بعض الصور أو الفيديوهات المولدة بواسطة الذكاء الصناعي، لأن ذلك يتطلب الاشتراك في مواقع مدفوعة."
كما أن ظهور تقنيات الذكاء الصناعي، مثل توليد الصور والفيديوهات المزيفة، يعقّد مهمة التحقق من صحة المحتوى. ومع ذلك، يسعى فريق "التقنية من أجل السلام" إلى استخدام أدوات مبتكرة والتعاون مع جهات دولية للحصول على المصادر المطلوبة.
يشير أوس كذلك إلى أن العمل في هذا المجال ليس خاليًا من التحديات السياسية والإعلامية، موضحًا:"هناك أيضًا تحديات خاصة بعمليات التحقق في السياق السياسي، حيث يواجه الفريق بعض الضغوطات من جهات سياسية لتكذيب أخبار صحيحة، أو لعدم نفي أخبار مضللة. لذا، نحرص على البقاء مستقلين وعلى عدم الرضوخ لأي ضغط خارجي."
ويضيف أن بعض المؤسسات الإعلامية في العراق تعاني من انعدام الحياد، حيث تُمارس ضغوط لتسييس الأخبار أو التلاعب بالمصادر. وللتغلب على ذلك، يعتمد فريقه على تعدد المصادر وتوظيف أساليب تحقق دقيقة لضمان تقديم صورة موضوعية وموثوقة.
وأمام الانتشار الواسع للأخبار المضللة، يؤكد السعدي على أهمية تعزيز الوعي الرقمي لدى الجمهور، ويقول"نحن نعمل على نشر ثقافة التفكير النقدي كوسيلة رئيسية لمواجهة التضليل، مع الحفاظ على استقلالية منصات التحقق وتعزيز الثقة بمخرجاتها"، ما يشير إلى ضرورة تكثيف الجهود التوعوية الموجهة خاصة نحو النساء، لزيادة الوعي بالتأثيرات النفسية والاجتماعية للأخبار المضللة.
في عالم يزداد تعقيدًا بفعل التقنيات الحديثة، تمثل جهود أوس السعدي وفريقه خطوة جريئة نحو مواجهة التضليل الإلكتروني في العراق، حيث يواصل فريق "التقنية من أجل السلام" تقديم نموذج يحتذى به في مجال التحقق من المعلومات، مع الحفاظ على النزاهة والاستقلالية.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments