"تزوجت في العشرين من عمري من شاب كان معي في الجامعة، ظننت أن الحب يكفي لبناء حياة زوجية سعيدة، لكنني كنت مخطئة". بهذه الكلمات الحزينة بدأت رنا، الأستاذة الجامعية الثلاثينية التي تعيش في العاصمة بغداد، سرد قصتها.
"تعرضت بعد الزواج لأنواع عديدة من العنف، لم أكن أسكت على حقي أو الأخطاء التي يرتكبها زوجي معي أو تقصيره في مسؤوليات البيت. لذلك كان يضربني ويهينني لأتفه الأسباب، حتى أنه في إحدى المرات قلب عليّ صينية طعام ساخن، مما تسبب لي بحروق شديدة ".
وتضيف رنا بصوت يرتجف:"كانت والدته تنصحني بالصبر على أسلوب ابنها السيئ، وكانت تقول لي إن هذه هي طبيعة الرجال، ويجب أن أكون مثلها، أي أن أصبر وأتحمل".
خلال سنوات الزواج الثلاث، وأثناء فترة حملها، رأت رنا أنواعًا من العنف والضرب والإهانة لم تكن تتخيلها. لذلك قررت الطلاق لتحمي ابنتها من أب عنيف يمكن أن يعنفها هي الأخرى، ولتنجو من "جحيم الزواج". وفي ختام حديثها، قالت بابتسامة ممزوجة بالألم: "أنا سعيدة حقًا بقرار طلاقي، أعتقد أنني أكثر وعيًا وإدراكًا الآن أن الحب لا يكفي لينجح الزواج. يجب أن يكون هناك احترام وتقدير متبادل، وأن يكون الرجل قادرًا على تحمل المسؤولية والتعامل مع المرأة كشريكة له في الحياة".
رنا هي واحدة من بين الآلاف من النساء العراقيات اللواتي قررن اتخاذ قرار الطلاق رغم ضغوط المجتمع المحافظ الذي يرفض أن يرى المرأة سوى كائن تابع للرجل وفي خدمته.
ارتفاع حالات الإنفصال
في عام 2023، شهد العراق قرابة 70 ألف حالة طلاق، أي بمعدل أكثر من 200 حالة يوميًا. ولم يكن العام 2022 أفضل حالًا، حيث تم تسجيل قرابة 65 ألف حالة طلاق خلال 11 شهرًا فقط.
وبحسب دائرة البحوث والدراسات النيابية التي تنشر احصائيات وتحليل حالات الزواج والطلاق في العراق لسنة 2022 يتضح أن حالات الزواج بلغت(289250) حالة مقابل (65765) حالة طلاق في سنة 2022، وبنسبة طلاق بلغت (23%)، وتعد محافظة بغداد الأعلى في حالات الزواج والطلاق على مستوى العراق، تتلوها محافظة البصرة، ثم محافظة بابل.
ويقدم الجدول رقم (1) في أدناه تفصيلاً أدق عن مجموع و نسب حالات الزواج والطلاق لسنة 2022 حسب الأشهر، والتي أظهرت أعلى نسبة طلاق في شهر أيلول حيث بلغت (49%)، وكانت من حصة محافظات بغداد، كما أن هذه النسبة كادت تصل إلى نصف حالات الزواج التي انتهت بالطلاق. أما أقل نسبة طلاق فقد حصلت في شهر كانون الأول وبلغت (4%)، وكانت من حصة محافظة المثنى، ويمكن تفسير ذلك بالتزام أبناء المحافظات بشكل كبير بالأعراف والتقاليد، مقارنة بمحافظة بغداد ذات الطابع الحضري، فضلاً عن واقع الإحصاء السكاني الواسع في بغداد باعتبارها العاصمة.
جدول (1): مجموع ونسب حالات الزواج والطلاق لسنة 2022 حسب الأشهر والمحافظات.
حالات الزواج | حالات الطلاق | النسبة المئوية | أعلى نسبة | أقل نسبة | الأشهر |
26000 | 6486 | %25 | بغداد 38% | واسط 11% | كانون الثاني |
24056 | 5815 | 24% | بغداد 35% | ذي قار 8% | شباط |
29806 | 6606 | 22% | بغداد 33% | المثنى 14% | آذار |
- | - | - | - | - | نيسان |
21857 | 5270 | 24% | بغداد 34% | ذي قار 7% | أيار |
33356 | 6493 | 19% | بغداد 26% | المثنى 11% | حزيران |
25488 | 4827 | 19% | بغداد 25% | ذي قار 7% | تموز |
21142 | 6491 | 31% | بغداد 44% | المثنى 21% | آب |
18045 | 5569 | 31% | بغداد 49% | المثنى 19% | أيلول |
33200 | 6987 | 21% | بغداد 29% | ذي قار 6% | تشرين الأول |
32271 | 6895 | 21% | بغداد 29% | ذي قار 7% | تشرين الثاني |
24608 | 4526 | 18% | بغداد 24% | المثنى 4% | كانون الأول |
هذه الأرقام المقلقة تعكس حجم التحديات التي تواجهها الأسرة العراقية، وتدعو إلى التفكير بجدية في أسباب هذه الظاهرة وتداعياتها على المجتمع.
وبحسب بيانات مجلس القضاء الأعلى، فإن الأسباب الرئيسية للطلاق في العراق تتراوح بين الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي شكلت 50% من أسباب الطلاق، والتدخلات الاجتماعية، وتفاوت المستوى التعليمي والثقافي بين الزوجين، بالإضافة إلى تنامي ظاهرة الزواج المبكر والعنف الأسري. هذه الأسباب مجتمعة، ترسم صورة قاتمة لواقع الأسرة العراقية، وتدعو إلى ضرورة تكاتف الجهود لإيجاد حلول جذرية لهذه المشكلة المتفاقمة.
العنف الأسري.. شبح يطارد النساء ويدفعهن للطلاق
يعتبر العنف الأسري أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع النساء العراقيات إلى طلب الطلاق. ففي ظل مجتمع لا يزال يتعامل مع هذه الظاهرة بتكتم وخجل، يصبح الطلاق هو الملاذ الوحيد للخروج من دائرة العنف وتحقيق الأمان والاستقرار النفسي. هذا ما حصل مع سمر، مهندسة اتصالات شابة تعيش في العاصمة بغداد، والتي قرّرت الانفصال عن زوجها لأنه كان يسيء معاملتها، رغم أنها تزوجته عن حب.
" كنت أظن أنني محظوظة بزوجي، لكن سرعان ما تحول الحلم الوردي إلى كابوس"، بهذه الكلمات الموجعة بدأت سرد قصتها. "بعد أقل من عام على زواجنا، بدأ يتغير، أصبح يتأخر خارج المنزل لساعات طويلة، تاركًا إياي وحيدة. حاولت الحديث معه، لكنه لم يكن يتقبل النقاش، كان يردد أن هذا روتين الحياة الزوجية وأنه يشعر بالملل".
وتتابع:"تفاجأت بكم الصور التي ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، صور شخصية وتفاصيل عن حياته وعمله. عندما سألته عن سبب ذلك، ثار عليّ وحطم أغراضي، وبدأ يصرخ بأنني يجب أن ألتزم حدودي ولا أتدخل في حياته. وفي إحدى المرات، استيقظت فجرًا على صوت مكالمة هاتفية له مع امرأة أخرى، عندها تأكدت أنه يخونني".
تكررت المشاكل بين سمر وزوجها وانعدمت لغة الحوار بينهما، حتى أنه لم يكن يسأل عنها عندما كانت تذهب إلى بيت أهلها. وفي أحد الأيام سحبها من يدها ورماها على الأرض. " كانت إهانة كبيرة بالنسبة لي. ولم أتخيل أن أعيش حالة من العنف الزوجي مع رجل يعيش حياة صبيانية"، تتذكر الشابة بألم.
عند هذا الحد، أخبرت سمر والدها أنها تُريد الطلاق، وانتظرت أن يطلب الزوج ذلك لكي لا تخسر حقوقها. وبالفعل، تواصل هذا الأخير مع والدها واتهمها بأنها امرأة ذات "لسان طويل" وغير محترمة، مهددا بأنه سوف يطلقها ويتزوج بأخرى أفضل منها.
"مازلت لم أشفى من هذه التجربة"، تقول سمر بحسرة، ومازالت إجراءات الطلاق قائمة منذ أشهر بسبب طلبه التنازل عن حقوقي في الحصول على المؤجل، لكني حافظت على كرامتي باتخاذ قرار الطلاق".
تعتبر المحامية المختصة بقانون الأحوال الشخصية، عبير الياسري والتي تعمل في محكمة استئناف الرصافة في بغداد، أن العنف الأسري، بكل أشكاله، يمثل دافعًا رئيسيًا للعديد من النساء العراقيات لطلب الطلاق، "فالكثيرات منهن يفضلن التضحية بحياتهن الزوجية على حساب سلامتهن وكرامتهن"، مضيفة "يلعب عامل السن أيضًا دورًا هامًا في ارتفاع معدلات الطلاق، فالعديد من الفتيات يتزوجن في سن مبكرة دون أن يكون لديهن الوعي الكافي بمتطلبات الحياة الزوجية، مما يؤدي إلى نشوب الخلافات والمشاكل التي قد تنتهي بالطلاق. كذلك، فإن عدم عمل المرأة وعدم استقلاليتها المادية يجعلها أكثر عرضة للعنف والاضطهاد، ويصعب عليها اتخاذ قرار الطلاق حتى لو كانت تعاني من ظروف صعبة."
صعوبة الطلاق في الماضي
في الماضي، لم يكن اتخاذ قرار الطلاق أمرا سهلا بالنسبة للنساء وكنا يرضين بالمعاملة السيئة والعنف من قبل أزواجهن خوفا من النظرة الإجتماعية السلبية. في هذا الصدد تقول أم علي السبعينية، "لم أسمع عن قريبة أو جارة تطلقت، كان الطلاق عارًا كبيرًا، وكنا نصبر على أي شيء حفاظًا على سمعتنا وأسرتنا".
عانت أم علي من عصبية زوجها وغضبه، وتعرضت للإهانة والسب أمام الآخرين. لكنها كانت تعتبر ذلك أمرًا طبيعيًا: "كانت هذه طبيعة الرجال في ذلك الوقت، فقد كانوا يعانون من ضغوط الحياة، ولم يكن لديهم وسيلة للتعبير عن غضبهم إلا بالصراخ والسب"، مضيفة "البنات اليوم غير صبورات، ولديهن شروط كثيرة. في أيامنا، كانت المرأة راضية وقنوعة، ولم تكن تفكر بالطلاق إلا في حالات نادرة جدًا".
تسترجع ميادة، امرأة في الخمسين من عمرها تسكن منطقة الدورة في العاصمة بغداد، هي الأخرى ذكريات حياتها الزوجية التي لم تكن سهلة، فقد عانت من غياب زوجها الطويل بسبب عمله كسائق، واضطرت لتحمل مسؤولية تربية أطفالها بمفردها، كما أنها تخلّت على عملها كمهندسة في وزارة الصناعة لأن زوجها اشترط عليها ذلك قبل الزواج. "لم يكن لدي مصدر دخل لأعيل نفسي وأطفالي، وكلما فكّرت في الطلاق، تذكرّت كلام الناس الذي لا يرحم، فقد كانت النميمة تلاحق المرأة المطلقة من قبل الأقارب والجيران".
بعد سنتين من الزواج، احتدت المشاكل بينها وبين زوجها بسبب الأوضاع السيئة في المنزل وتدخلات أهله المستمرة في حياتهما. "تركت البيت لعدة أشهر وعدت إلى بيت أهلي برفقة طفلي، ولكن والدتي وأخواتي نصحنني بالعودة إلى بيت زوجي والمحافظة على حياتي الزوجية، ونسيان فكرة الطلاق". استمعت ميادة لنصيحة أهلها وعادت إلى بيت زوجها، وتحملت أيامًا صعبة مليئة بالمشاكل والتحديات. "كانت فكرة الطلاق صعبة جدًا في ذلك الوقت، لم يكن للمرأة أي خيار أو قرار وكان عليها أن تصبر وتتحمل مهما كانت الظروف".
في تقييمها لتجربتها الزوجية ترى ميادة أنها "بالرغم من مرور السنوات، لم تعش أفضل حياة. أشعر أن أيام شبابي ذهبت سدى. لكنني سعيدة بأن المرأة اليوم لم تعد ترضى أو تسكت عن حقها".
أسباب خفية لا يتم الإفصاح عنها
ترى الباحثة الاجتماعية، نور الهدى ابراهيم التي تعمل في إحدى محاكم بغداد، أن العنف ليس السبب الوحيد الذي يدفع النساء لطلب الطلاق، فهناك معيار خفي وغير معلن يلعب دورًا كبيرًا في انهيار العديد من الزيجات، وهو التنافر الجنسي. في هذا الصدد، تُوضّح الباحثة أنه "غالبًا ما يُخفي الأزواج هذا السبب الحساس ثقافيًا، ويلجؤون إلى تقديم أسباب متداولة يقبلها المجتمع كذريعة للطلاق، مثل الخلافات المالية أو التدخلات العائلية. لكن في الحقيقة، يعاني الكثير من الأزواج، وخاصة الشباب، من عدم التناغم الجنسي، مما يؤدي إلى تراكم الإحباط والمشاكل التي تنتهي بالطلاق". وتُبيّن أن "هذا المعيار الخفي يشيع بشكل خاص بين الأزواج الأصغر سنًا، والذين لديهم توقعات عالية فيما يخص الحياة الجنسية. وعندما لا يتم تلبية هذه التوقعات ، يحصل انعزال جنسي بين الزوجين، ويتسبب في النهاية، في الإنفصال".
من جانبها، ترى الناشطة النسوية، نسرين الجبوري "أن التمايز الاجتماعي والفكري بين الزوجين يمثل تحديًا كبيرًا بالنسبة للعديد من الزيجات في العراق، خاصة في المدن الكبرى مثل بغداد"، مما يؤدي إلى نشوب الخلافات والمشاكل، حيث يصعب على الزوجين التفاهم والتواصل بشكل فعال، ويحصل الطلاق". وتعتبر أن ذلك يعود إلى الفكرة الأصلية "لإخضاع النساء للزواج كمؤسسة ترضية للذكور، حيث كانت وظيفة المرأة الأساسية في المجتمعات التقليدية هي خدمة الرجل وعائلته. ورغم أن هذا النمط كان شائعًا في الريف، إلا أنه انتقل إلى المدن الكبرى مع هجرة العديد من العائلات الريفية إلى المدن". وتتابع: "مع تزايد معدل تعليم النساء ووعيهن وقدرتهن على الاستقلال المادي، أصبح من الصعب بناء زيجات على أساس الخدمة الأصلية، فالنساء اليوم يطمحن إلى شراكة حقيقية قائمة على الاحترام والمساواة، وليس مجرد علاقة تبعية".
وختمت الجبوري حديثها بالقول: "نحن بحاجة إلى تغيير جذري في نظرة المجتمع لدور المرأة في الزواج، وتشجيع الزيجات القائمة على الاحترام والمساواة، بدلًا من الزيجات التقليدية القائمة على التبعية والخدمة".
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments