في العراق، حيث تتشابك خيوط الماضي بحاضر حافل بالتحديات والابتكارات، تبرز الصناعات اليدوية التراثية كجزء من الهوية الثقافية التي تقاوم النسيان، فالأعمال اليدوية "كالكروشيه" و"المكرمية" والحلي اليدوية النسائية تحمل في طياتها حكايات وألوان مستوحاة من التراث العريق، تجسدها أنامل شابات مبدعات مثل آمنة وبسمة ومريام.
بدأت آمنة مشروعها "آمنة لأعمال الكروشيه" في عام 2023، بعد أن شجعها المقربون منها لحبهم للقطع التي تصنعها. تقول: "أتمنى أن ننشر الوعي الكافي حول أهمية الأعمال اليدوية لأن صناعتها ليست بالأمر السهل". والدتها، التي علمتها أساسيات الكروشيه، كانت حريصة على أن تكون أعمالها مثالية، وقد بدأت العمل في هذا المجال كهواية، لكنها أحبته جداً واستمرت فيه لتطلق مشروعها بعد ذلك.
أما بسمة، صاحبة مشروع "ظفيرة"، فتروي قصتها بقولها: "بدأت رحلتي مع الفن منذ أن كنت صغيرة، كنت أستمتع بالرسم وتعلمت الخياطة والحياكة والتطريز". في التسعينات، اكتشفت فن "المكرمية"، الذي أصبح من أكثر الهوايات قرباً إلى قلبها. بدأت بتصميم قطع لمنزلها، مثل حاملة السنادين وتعليقات الحائط، واستمرت فيه كهواية على مر السنوات. في عام 2016، وبعد أن كبر أولادها، قررت بسمة تحويل هوايتها إلى عمل بمساعدة وتشجيع من أهلها وكانت هذه هي بداية مشروع "ظفيرة".
من جهتها، أسّست مريام خزارجيان مشروع "خزار" الذي جاء ليكون نقطة التقاء بين التراث والابتكار، حيث حاولت من خلاله أن تستلهم من إرث عائلتها العريق في النجارة، والذي يدمج بين الثقافتين العراقية والأرمنية. تحت شعار "ارتدي قصة"، تسعى مريام إلى تقديم قطع فنية تتجاوز كونها مجرد حلي، بل تحمل معها تاريخ الثقافتين. رسالتها تتمثل في تعزيز فخامة وجودة الصناعات اليدوية العراقية والتشجيع على الإقبال على المنتجات المحلية.
تعكس قصص آمنة وبسمة ومريام التمسك بالعادات والتقاليد العراقية عند العديد من النساء اللواتي يتعلمن الصناعات اليدوية كهوايات، ثم يواصلن ممارسة فنونهن كجزء من حياتهن اليومية وقد تتحول ذات يوم إلى مشاريع خاصة. هذه الحرف لا تمثل فقط مهارات فنية، بل هي تجسيد لحضارة حية تعبر عن التقاليد الثقافية ويعمل أصحابها على نقلها إلى الأجيال الجديدة.
تلعب المرأة العراقية دورًا محوريًا في الصناعات اليدوية، حيث تُعزز هذه الأنشطة من التمكين الاقتصادي للنساء، فمن خلال تطوير مهاراتهن في الحرف اليدوية، لا يساهمن فقط في الحفاظ على التراث الثقافي، وإنما أيضا في تحقيق الاستقلال المالي لأسرهن.
الحاجة إلى دعم الحرفيات
تعتبر الصناعات اليدوية بالنسبة للكثير من النساء العراقيات أكثر من مجرد هواية، بل هي مهنة تعكس شغفهن وإبداعهن. في هذا الصدد، تقول بسمة: "شغفي بالصناعات اليدوية وتحديداً "المكرمية" ألهمني لأشارك هذا الفن مع النساء الأخريات"، مضيفة " أرى أن الصناعات اليدوية ليست مجرد مصدر دخل، بل وسيلة لتمكين النساء، حيث يمكنهن إظهار إبداعهن إلى جانب تحقيق الاستقلال المالي"."
من جهتها، ترى بسمة نفسها كمرشدة، تهدف إلى تمكين النساء من خلال التعليم والتوجيه، مما يسهم في تعزيز روح التعاون والمشاركة بينهن، حيث تقول: "ما يحفزني للعمل في الصناعة اليدوية ليس فقط تحقيق المكاسب المالية وإنما أيضًا بناء مجتمع من النساء القادرات على الابتكار والإبداع، مما يعمق ثقافة التعاون بينهن داخل المجتمع".
تؤكد مريام خزارجيان على التحديات الكبيرة التي تواجه النساء العاملات في مجال الصناعات اليدوية، مشيرة إلى أن "الإقبال على هذا المجال جيد ولكن العديد من النساء يخفن من تحويل هوايتهن إلى عملهن الأساسي لأنه لا يوفر دخلا مناسبا للأسرة." تعكس هذه الكلمات صراع النساء بين الرغبة في تحويل هوايتهن إلى مهنة قادرة على دعم أسرهن، وبين الواقع الاقتصادي الذي لا يدعم هذا التحول.
تسلط آمنة، الضوء على نقطة تتعلق بالوعي العام بقيمة الصناعات اليدوية وتقول " نواجه قلة معرفة الناس بحجم المجهود الذي يلزمنا لصناعة أية قطعة وبالتالي، يعتبرون أن أسعارنا غالية، فيُفضّلون شراء الملابس أو الدمى من المحلات الجاهزة".
هذه التحديات تساهم في تعزيز الفكرة السلبية بأن الصناعة اليدوية ليست مهنة موثوقة، بل تُعتبر مجرد هواية لا توفر دخلًا مستدامًا. لذا، يتطلب الأمر توفير الدعم اللازم للنساء العاملات في هذا المجال. كما أن زيادة الوعي المجتمعي حول قيمة المنتجات الحرفية وأهمية دعم الحرفيين يمكن أن تساهم في تغيير النظرة العامة، مما يشجع النساء على اتخاذ خطوات جادة نحو تحويل شغفهن إلى مهنة حقيقية.
تُحاول مريم من خلال إطلاق مشروع "ورشة فن"، الذي تديره مع أختها فاطمة ووالدتها الست زينب، تقديم دورات تعليمية في الحرف اليدوية للشابات العراقيات لتمكينهن من تعزيز مهاراتهن الفنية وتغيير نظرة المجتمع تجاه الصناعات اليدوية. وتشير إلى أن التركيز التاريخي على مشاريع المطاعم والمقاهي جعل فكرة مشروعها غير مألوفة في البداية. لكن الأهم من ذلك هو أن الإقبال القوي الذي حصل عليه المشروع يُظهر أن هناك رغبة حقيقية في استكشاف واستثمار المهارات الحرفية، وهو ما يمثل تحولًا إيجابيًا في تفكير المجتمع.
أهمية الصناعات اليدوية في التمكين الاقتصادي
تعتبر الصناعات اليدوية أحد الأدوات الفعالة في تمكين النساء اقتصاديًا. في العراق، تُمارس العديد من النساء مثل مريام وبسمة وآمنة ومريم، مجموعة متنوعة من الصناعات اليدوية التي تشمل صناعة الحلي، المكرمية، الأعمال الفنية، والحرف التقليدية. هذه المنتجات لا تعكس فقط مهاراتهن وإبداعهن، بل تسهم أيضًا في دعم الثقافة العراقية وتعزيز الاقتصاد المحلي.
وفي هذا السياق، تبرز تجربة آمنة، التي قالت: "في بداية المشروع كنت أنا وحدي فيه ولكن كان من الصعب السيطرة على الطلبات، فقررت أن أكون فريق من النساء، والآن نحن سبع نساء نعمل سوياً. كل واحدة منا لها إبداعها الخاص، وأنا فخورة جداً بذلك لأنهن يهتممن بالتفاصيل كثيرًا مثلي بالضبط، وأرى أنهن أضفن الكثير إلى المشروع."
تعتبر تجربة آمنة مثالًا يحتذى به في كيفية توفير فرص عمل أكثر للمرأة، فبدلاً من العمل بمفردها، اختارت أن تجمع النساء المبدعات، مما يزيد من فرص النجاح ويخلق بيئة داعمة تعزز من الإبداع والابتكار. هذه الروح التعاونية يمكن أن تشجع المزيد من النساء على الانخراط في مشاريع مماثلة، خاصة بالنسبة للخريجات، اللواتي يواجهن تحديات في الحصول على وظائف حكومية. مشاريع مماثلة ستمكّنهن من بناء مسارات مهنية مستدامة تساهم في تحسين دخلهن ودعم أسرهن.
دور التكنولوجيا في الترويج للمنتجات
تعتبر التكنولوجيا اليوم عنصرًا حاسمًا في دعم مشاريع النساء اليدوية وتعزيز قدرتهن على الترويج لمنتجاتهن. تقول بسمة: "أستخدم إنستغرام كمنصة رئيسية للترويج لمنتجاتي، حيث أشارك صوراً وفيديوهات لأعمالي اليدوية وأسعى للتواصل المباشر مع المتابعين والعملاء". من جهتها، تؤكد مريم على أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، قائلة: "أكيد السوشيال ميديا لها دور كبير حتى يتعرف الناس علينا أكثر."
من جانبها، تشير مريام خزرجيان إلى الدور الحاسم الذي تلعبه التكنولوجيا في تعزيز الأعمال اليدوية، معتبرةً إياها "السلاح الأول في عملية الترويج والبيع." أما مريم، فتؤكد على ضرورة تصوير المنتجات، وتحضير المحتوى، واعتماد طرق الترويج الصحيحة لجذب انتباه العملاء وزيادة المبيعات.
تُشدّد آمنة من ناحيتها على أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا منصتي إنستغرام وتيك توك، في الترويج للأعمال اليدوية ، حيث تقول: "هذه المنصات مثالية لعرض الإبداعات، حيث يمكن للنساء الحرفيات تقديم لمحات عن أعمالهن، مشاركة خطوات العمل، وحتى تقديم القصص وراء المنتجات، مما يساهم لا فقط في عرض المنتجات، وإنما أيضًا في التواصل الإنساني، مما يجعل العملاء يشعرون بالارتباط الشخصي مع الأعمال".
رغم ذلك، تؤكد آمنة على أهمية التفاعل المباشر والتواصل مع العملاء، مما يمكّن من تحقيق النجاح وزيادة الوعي بمنتجاتهن.
في النهاية، ومن خلال أبرز ما شاركتنا به بعض الشابات العراقيات العاملات في مجال الصناعة اليدوية، مثل مريام وبسمة وآمنة ومريم، نجد أن هذه الصناعات يُمكن أن تُمثّل مصدر دخل حيوي يدعم الاقتصاد المحلي، بالإضافة إلى الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز الهوية العراقية.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Comments