
تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين واحدة من أبرز مظاهر عدم المساواة الاقتصادية التي تواجهها المرأة حول العالم، إلا أن هذه الفجوة تأخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا في العراق. فرغم التقدم الذي شهده العالم في تعزيز مشاركة المرأة في سوق العمل، لا يزال العراق بعيدًا عن تحقيق العدالة الاقتصادية بين الجنسين. وفقًا لتقرير الفجوة العالمية بين الجنسين الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في نسخته السابعة عشرة (2023) والثامنة عشرة (2024)، خرج العراق من تصنيف الدول المدرجة في التقرير، وهو مؤشر خطير يعكس تحديات هيكلية تعرقل تحقيق التوازن الاقتصادي والمساواة بين الجنسين.
هذا الواقع يثير تساؤلات حول مدى قدرة المرأة العراقية على الحصول على أجر يتناسب مع احتياجات الحياة المعاصرة، وما إذا كان سوق العمل يدعم تحقيق استقلاليتها المالية.
"المرأة تُعامل وكأنها شخص بلا التزامات"
حين يتعلق الأمر بالفجوة في الأجور بين الجنسين، تشعر العديد من النساء العاملات بالتمييز، كما أوضحت سجى، موظفة في القطاع الخاص تعمل في مجال المبيعات (Sales)، حيث تقول
"الفجوة بيني وبين زملائي دائمًا موجودة، وغالبًا ما تكون المبررات التي تُقال لي هي أنني بنت ولا أحتاج إلى المبلغ الذي يُعطى لزملائي الذكور، حتى وإن كنتُ بنفس كفائتهم في العمل.". وتضيف "على سبيل المثال، إذا كان راتبي الشهري مليون و200 ألف دينار عراقي، فإن زميلي في العمل، ورغم أن إنجازاته وخبرته أقل مني، يتقاضى مليون و700 ألف دينار أو أكثر. وفي حال وجود عمل إضافي، فإنه من يتقاضى أجرا على ذلك، بينما يتم تجاهل جهودي."
هذا النوع من التمييز يقلل من قيمة كفاءة المرأة ومساهمتها في العمل، كما أن المساواة في الأجور ليست مجرد مطلب أخلاقي، بل هي حق مشروع يجب أن يضمنه نظام العمل.
شاركت سجى وزميلاتها تجاربهن مع ردود المسؤولين حول هذه المسألة، والتي غالبًا ما تكون مستفزة وتعكس تحيزات اجتماعية واضحة.، من قبيل "ماذا ستفعلين بهذا الأجر؟ هل ستصرفينه على المكياج أو الأكل والمطاعم"، في إشارة إلى أن المرأة تُعامل وكأنها شخص بلا التزامات أو مصاريف، وكأنها مرفهة ولا تتحمل أي مسؤوليات. هذه الردود لا تعكس فقط انعدام المهنية، بل تسلط الضوء على التحيزات النمطية التي تقلل من أهمية حق المرأة في الأجر العادل، مما يجعل الحاجة إلى سياسات شفافة وآليات قانونية لضمان المساواة أكثر إلحاحًا.
القوالب النمطية وتبرير الفجوة
ترى بعض النساء العاملات، مثل آية، أن أحد الأسباب الرئيسية وراء استمرار الفجوة في الأجور يكمن في العقليات التقليدية وطريقة التفكير التي تسود المجتمع، إذ لا يزال العديد من الأشخاص ينظرون إلى الرجل باعتباره المسؤول الأول عن إعالة الأسرة وتلبية احتياجاتها المعيشية، بينما يتم تجاهل حقيقة أن المرأة قد تكون هي الأخرى مسؤولة عن إعالة أفراد من أسرتها، سواء أطفالها أو والديها أو أشقائها. وتضيف سجى: "إذا لم تُعتبر المرأة مسؤولة عن إعالة أحد، فإن أي شيء آخر تنفق عليه يُعتبر رفاهية لا حاجة لها." هذه النظرة تتجاهل تمامًا التغيرات التي طرأت على الأدوار الاجتماعية والاقتصادية للنساء، واللواتي أصبحن شركاء فاعلين في دعم الأسر وتأمين مصادر الدخل.
إن استمرار هذه العقليات التقليدية يعكس تأثير القوالب النمطية الاجتماعية في تشكيل سياسات العمل وقرارات الأجور، مما يؤدي إلى تقليل أهمية الأدوار التي تقوم بها المرأة في المجتمع والأسرة، كما أن مثل هذه النظرة لا تكتفي بإنكار مساهمة المرأة الاقتصادية، بل تضعها في موقع أقل أهلية للحصول على حقوقها المالية مقارنة بزملائها الرجال، بغض النظر عن كفاءتها. لذلك لابد من تغيير هذه المفاهيم المغلوطة من خلال التوعية المجتمعية، والتأكيد على أهمية تحقيق المساواة في الأجور كجزء لا يتجزأ من العدالة الاقتصادية، وفرض سياسات أكثر شفافية تُلزم المؤسسات بتقييم الأجور بناءً على الأداء وليس على أساس النوع الاجتماعي أو الأدوار التقليدية المفترضة.
تأثير ضعف الأجر على التطور المهني
يؤثر ضعف الأجر بشكل كبير على العديد من جوانب حياة النساء العاملات في العراق، سواء من حيث تقدمهن المهني أو استقرارهن المالي. هذا الواقع يفرض عليهن تحديات مستمرة للتكيف مع المتطلبات اليومية، مما ينعكس على طموحاتهن وآفاقهن المهنية. في هذا الصدد، تقول أيه:
"كنت أعمل نفس ساعات العمل مقارنة بزملائي من الذكور وأحقق إنجازات أكبر، ولكن التمييز على مستوى الأجور دفعني إلى البحث عن عمل آخر حتى أتمكن من توفير دخل إضافي يساعدني على سد احتياجاتي المادية. في النهاية، نحن نعمل من أجل أن نرتاح مادياً، وليس فقط لمواصلة الكفاح من مرحلة إلى مرحلة. حق من حقوق أي شخص أن يحصل على حياة كريمة.".
هذا الواقع الذي تعيشه آية ليس فريدًا، بل هو شائع بين العديد من النساء العاملات في العراق، فضعف الأجر يُقلّل من فرص تطوير المهارات ويحُدّ من القدرة على تحسين المستوى المعيشي، مما يجعل العمل الإضافي أو البحث عن وظائف أخرى أمرًا لا مفر منه.
من جانب آخر، فقد جاء في الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها منظمة الأمم المتحدة لتحقيق مستقبل أفضل و أكثر استدامة للجميع، ضرورة توفير العمل اللائق والنمو الاقتصادي. وتلزم كل الدول بتحقيق هذه الأهداف، مما يضع على عاتق العراق مسؤولية اتخاذ خطوات جدية لضمان توفير فرص عمل لائقة للنساء وتحقيق المساواة في الأجور. هذا يتطلب إصلاحات هيكلية ودعماً حقيقياً لتمكين المرأة في سوق الشغل.
تحدي إثبات الكفاءة
في بيئات العمل العراقية، لا تزال النساء يواجهن تحديات كبيرة تتعلق بالتفرقة بين الجنسين، حيث يُفرض عليهن تقديم جهد مضاعف لإثبات أنفسهن في ظل التحيزات التي تتواجد في معظم القطاعات. تقول سجى "دائمًا ما كان لدي شعور بأنني أقل مرتبة وكفاءة بسبب كوني امرأة، لذلك كان علي دائمًا تقديم جهد إضافي لأثبت نفسي في العمل".
في محاولة منها لتجاوز هذه التحديات، تُشارك باستمرار المشاركة في ورشات عمل وتنظيم ورشات تدريبية، بهدف تمكين النساء من بنات جيلها والأجيال الجديدة. وتؤكد أنها تسعى دائمًا لمشاركة تجربتها الشخصية وتحفيز النساء على الاعتماد المادي على أنفسهن والمشاركة في سوق الشغل.
وبالنسبة لها، "كل ما هو مطلوب من أصحاب العمل هو أن يكونوا عادلين ويعتمدوا على نظام الكفاءة، وأن تكون المساواة موجودة بين الجنسين، كما أن بيئة العمل يجب أن تكون أكثر تنوعًا في القيادات، بحيث تكون المناصب الإدارية والقيادية متاحة للنساء كما للرجال."، وهو موقف يتفق مع العديد من النساء العاملات اللاتي يشعرن أن فرصهن تظل محدودة.
في الختام، تبرز قضية الفجوة في الأجور بين الجنسين في العراق كإحدى القضايا الرئيسية التي تتطلب التغيير الفوري، حيث تبيّن تجارب النساء العاملات، أن هناك حاجة ملحة لتطبيق سياسات عادلة تضمن المساواة بين الجنسين في جميع قطاعات العمل. ولابد من اعتماد معايير قائمة على الكفاءة وليس التحيزات الاجتماعية، وتوفير بيئات عمل تحتضن التنوع والمساواة في القيادة وفي توزيع الفرص. ومن الضروري أن يشهد المجتمع العراقي تحولًا حقيقيًا يضمن للنساء حقوقهن ويسهم في تعزيز مشاركتهن الفاعلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Yorumlar