إعادة التدوير في العراق: من إدارة النفايات إلى خلق فرص عمل وحلول بيئية مستدامة
- فاطمة نعمة
- 29 يونيو
- 4 دقيقة قراءة

في بلد يواجه أزمات بيئية متراكمة، من تلوث الهواء والمياه إلى تراكم النفايات من دون وجود آلية للتخلص منها ، تلوح ثقافة إعادة التدوير كفرصة واعدة لمعالجة هذه التحديات. لكن أهمية التدوير لا تقتصر على البعد البيئي فقط، بل تمتد إلى المجالين الاقتصادي والاجتماعي، خاصة في ظل غياب الوعي، وغياب سياسات حكومية فعالة لإدارة النفايات.
ورغم أن ثقافة التدوير لا تزال في مراحلها الأولى في العراق، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت ولادة عدد من المبادرات الشبابية والمشاريع الناشئة التي بدأت تغيّر المشهد، من تحويل البلاستيك إلى أثاث مدرسي، إلى استخدام الورق المعاد تدويره في إنتاج أعمال فنية تسوّق رقمياً.
ويأتي هذا التوجّه في وقت حرج، حيث باتت الحاجة ملحة لاعتماد حلول مستدامة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد البيئية والاقتصادية معًا. فإعادة التدوير لا تساهم فقط في تقليل الضغط على مكبات النفايات ومصادر الطبيعة، بل تفتح أيضاً آفاقاً جديدة لريادة الأعمال والابتكار المحلي، وتمكّن فئات مجتمعية مهمشة من الانخراط في أنشطة اقتصادية منتجة. إنها فرصة لإعادة النظر في علاقتنا بالبيئة، وفي كيفية تحويل التحديات إلى إمكانات تنهض بالمجتمع والاقتصاد على حد سواء.
إعادة التدوير كفرصة اقتصادية وتنموية
رغم ضخامة ما ينتجه العراق يوميًا من النفايات والذي يُقدّر بأكثر من 30 ألف طن وفق تقارير أممية، فإن نسبة إعادة التدوير لا تتجاوز 5%، ما يعني أن الكمّ الأكبر ينتهي في مطامر عشوائية أو يُحرق في الهواء الطلق، مخلّفًا أضرارًا بيئية وصحية جسيمة. وبينما تغيب حتى الآن استراتيجية وطنية شاملة لإدارة النفايات في الدولة. من جانب آخر، بدأ عدد من الشباب والشابات من مختلف المحافظات يبتكرون حلولهم الخاصة، محوّلين ما كان يُعدّ عبئًا بيئياً على المجتمع إلى فرصة اقتصادية حقيقية.
في الموصل، المدينة التي اتعبتها الحرب، تأسس في عام 2022 مركز لإعادة تدوير أنقاض المباني المهدّمة، بدعم من الأمم المتحدة والحكومة اليابانية. أكثر من 10 آلاف طن من الركام أعيد تدويرها، وتم استخدامها في إعادة إعمار الأرصفة والمنشآت العامة، كما وفر المشروع 240 فرصة عمل لأهالي المدينة، بينهم نساء فقدن معيل الأسرة خلال الحرب. في هذه الخطوة، يقول د. جاسم حمادي، الوكيل الفني لوزارة البيئة والعاملين على المشروع " من خلال تحويل الركام إلى مواد بناء ذات جودة تُستخدم في جهود إعادة الإعمار، خلقنا فرص عمل و ساهمنا في تطهير البيئة الحضرية… هذا المشروع يجسّد كيف يمكن أن تلتقي الاحتياجات الإنسانية مع أهداف التنمية المستدامة".
أما في مدينة البصرة جنوب العراق، يعد معمل اليد الخضراء أحد أوائل المشاريع المحلية لجمع وفرز البلاستيك، وتحويله إلى مواد أولية تُباع للمصانع. المشروع بدأ بمبادرة مجتمعية صغيرة، واليوم يستقبل أطنانًا من البلاستيك من مختلف مناطق المحافظة، في محاولة لتقليل التلوث البلاستيكي على البيئة والمجتمع.
وفي السنوات الاخيرة، تحولت أنظار البنك الدولي نحو مفهوم الاقتصاد الدائري، حيث يعتبر أن الدول النامية يمكن أن تحقق نموًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 4.8% بحلول 2030 من خلال تعزيز عمليات جمع وفرز ومعالجة النفايات .
وفي العراق، حيث يرتفع معدل بطالة الشباب إلى حوالي 32% في عام 2024، وفق بيانات البنك الدولي والـCIA، فإن هذا القطاع يمثل متنفسًا واعدًا للشباب الباحثين عن فرص عمل حقيقية.
الاقتصاد الأخضر لا يعني مجرد تقليص التلوث، بل يُعتبر رافعة اقتصادية حيوية للمشاريع الصغيرة في مجال التدوير تعمل على إنشاء سلسلة قيمة مترابطة من جني المواد إلى إنتاجها وبيعها، مما يدعم المصانع المحلية ويحدّ من الاعتماد على الواردات.
يوجد مثال حيّ على ذلك في بغداد، فقد أُطلق أحد المشاريع البيئية من قبل النساء المهتمات بالبيئة وهو ما يعرف اليوم بمشروع Green Gold. وهي مبادرة محلية تهدف إلى إعادة تدوير النفايات العضوية وتحويلها إلى سماد طبيعي يُستخدم في الزراعة الحضرية والمساحات الخضراء داخل المدينة. يوقوم المشروع بجمع بقايا الطعام والمخلفات النباتية من المنازل والمحال، ومعالجتها بطريقة صديقة للبيئة لإنتاج سماد عضوي بديل عن المواد الكيميائية الضارة.
حظي المشروع بدعم تدريبي وتقني من منظمات بيئية دولية مثل UNEP وIGES، ويشكّل نموذجًا مُلهمًا لتمكين النساء في العمل البيئي، إذ تديره خريجات في تخصصات الزراعة والعلوم البيئية. نجاح Green Gold يبرهن على أن الاقتصاد الدائري ليس مجرد نظرية مستوردة، بل واقع قابل للتحقق في مدن عراقية كبرى، حين تتوفّر بيئة تشجّع الابتكار وتحتضن المبادرات الشبابية.
ضرورة تطوير الثقافة البيئية في العراق
على الرغم من أن العراق يواجه أزمات بيئية متعددة مثل تلوث الهواء ونقص المياه وتراكم النفايات، فإن “الثقافة البيئية” لا تزال ضئيلة إلى حد كبير في المجتمع. يشير الخبير البيئي أحمد صالح في حديث له إلى أن “العراق لا يزال من الدول المتأخرة في مجال الثقافة البيئية”، مشيرًا إلى أن مفاهيم مثل الفرز المنزلي للنفايات أو إعادة التدوير بالكاد تُدرّس أو تُنشر بين المواطنين ويضيف أن“التوعية للحفاظ على المجالين الزراعي والبيئي تضائلت كثيرا خلال الأربعين سنة الماضية… وبدأنا مؤخرًا ندرك أهمية استرجاع هذه الثقافة”.
من ناحية أخرى، يؤكد عمر عبد اللطيف، أحد أعضاء مرصد “Green Iraq”، أن التلوث ونقص المياه يشكلان أكبر التهديدات البيئية في العراق. ويشير إلى أن “جميع فروع التلوث، من الانبعاثات الصناعية إلى القمامة المنزلية، تُفاقم الأزمة”. الأرقام تدعم هذا الواقع القاتم: فانخفاض هطول الأمطار زاد من حدة الجفاف، حيث انخفضت التساقطات بنسبة 30% منذ 2019، مع احتمال تراجعها أكثر بحلول 2050.
ويتعقّد الوضع أكثر في المدن الكبرى مثل بغداد، فوفق تقرير أصدرته وكالة JICA عام 2022، يبلغ متوسط توليد النفايات اليومية نحو 1.33 كغ للفرد الواحد في بغداد، بمعدل إجمالي يُقدّر بـ 11,197 طن يوميًا . وتعادل هذه الكمية نحو 11.2 مليون طن سنويًا. يشدد عيسى الفياض، مدير عام الشؤون الفنية في وزارة البيئة، على أن “التخلص من النفايات المنزلية يهدّد المياه، والإرث البيئي، بينما نفايات الطعام والبلاستيك تولّد انبعاثات غازية ضارة” .
رغم ذلك، ثمة بوادر أمل. لحل هذه المشكلة، ففي يناير 2024، أعلنت دائرة بيئة بغداد عن إطلاق خطة لتصفية المطامر غير الصحية، تشمل فصل النفايات، إعادة التدوير لإنتاج سماد عضوي، وحتى توليد الطاقة من النفايات غير القابلة لإعادة التدوير، مستندة إلى نموذج الدول الإسكندنافية. ورغم أنها خطوة إيجابية، إلا أنها تظل بحاجة إلى تفعيل سريع وتعميم على مستوى الوطني.
رغم التحديات البنيوية وضعف الوعي البيئي، يثبت الواقع أن العراق لا يفتقر إلى المبادرات والإرادة السياسية ، فحسب، بل أيضا إلى الرؤية المستدامة للمجال البيئيى لأن إعادة التدوير ليست مجرد تقنية بيئية، بل فرصة تنموية شاملة قادرة على خلق فرص عمل، وتحسين الصحة العامة، والحفاظ على الموارد للأجيال القادمة. لقد آن الأوان لأن تتحول المبادرات في هذا المجال من جهود فردية إلى سياسة وطنية، تُدرّس في المدارس، وتُدعم في البلديات، وتُروّج في الإعلام. فحين نعيد النظر في “نفاياتنا”، قد نكتشف أنها المفتاح نحو عراقٍ أنظف، أقوى، وأكثر عدالة بيئية.
لقد تم انتاج هذا المقال تحت اشراف منظمة المساعدات الانسانية والصحافة (AHJ) ضمن مشروع "قريب" برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)
Kommentarer